أفتحُ النافذةَ فأرى الحقلَ الذي كنتُ أعبرُه أحيانًا، والسنابلَ التي تخلَّفُ خطوطًا بيضَ على ساقيَّ بحلول المساء، وكذلك كان البارحة. أحضرني والدي من محطة القطار، وكنتُ قد أتيتُ من برلين. أقفُ إلى النافذةِ أمامَ طاولةِ المطبخ فأرى الحقلَ الذي كنتُ أعبرُه أحيانًا، وكذا المرجَ المجزوزَ الذي يفصِلُه عن الغابة التي كنتُ أتُوهُ وشقيقايَ فيها آنذاك تحت رذاذِ المطرِ الذي كان يعلقُ بالأهداب ونحن نغرسُ أحذيتنا في الطحالب الرطبة وننتظر، ولا أستطيعَ أنْ أرى أعماقَ الغابة من هنا حيث أقف على بعد ثمانمائة متر، لكن جذوعَ الأشجار النحيلةِ التي تصطفّ أمواجًا عريضًة كثيفة، وكذلك الأغصان المتشابكة مظللةً بزرقةٍ خافتةٍ نُسميها المساء، أراها من النافذة التي أقف إليها أمام طاولة المطبخ؛ أمامي بقايا أرُزٍّ على الأطباق. إنه أغسطس/آب، يوم أحد، الساعة الثامنة مساءً. البارحة وصلتُ. تسع سنواتٍ عشتُها في هذه الشقة، عشرون في تلك البلدة الواقعة في فرانكونيا العليا حيث نُعتنا بألقاب مختلفة: لاجئون، أجانب، قردة، زنوج، جُلَبَاء، هذه ألقابُنا. هكذا سُمِّينا.

اللوحة للفنّان أسامة دياب

أغلقُ النافذةَ فأرى الحقلَ الذي كنتُ أعبرُه أحيانًا والدربَ الرمليةَ التي تفصلُ المبنى الذي به الشقة التي اشتراها والداي على طرف المدينة عام 1996. آنذاك انتقلنا من شقة الإسكانِ الاجتماعي التي كانت أولَ شقةٍ نسكنُها بعد أنْ سُمح لنا بالانتقالِ من مأوى اللاجئين الذي أقمنا فيه خمس سنوات، كنتُ أسلكُ وأخي الأصغر هذا الدربَ حاملينِ أكياسَ المشترياتِ التي جمعتها أُمُنا من متاجر ألدي وإدِكا ونِتُّو، كلَّ اثنين في يدٍ حتى حفرت خطوطًا حمراء في أكفّنا. كان أغسطس/آب، يوم أحد، قبل الظهر. مشينا ساعةً. وضعنا الأكياس أمام بابِ المنزلِ فوقَ عتبات الدرَجِ المُزركشةِ بلونِ رخامٍ رمادي، واستطعتُ رؤيةَ الحقلِ الذي كنتُ أعبرُه أحيانًا، والدربَ الذي كنا نسلُكُه والذي يفصلُ بين الحقلِ والمبنى الذي انتقلنا إليه. سلكتُ الدربَ وأخي صعودًا البارحة بعد أن وضعت حقيبتي تحت زر الإضاءة في غرفتي القديمة حيث اعتدتُ وضعَها بعد عودتي من المدرسةِ، وقبل أنْ تُخلـِّفَ السنابلُ خطوطا بيضَ على ساقي. مشينا في الاتجاهِ المعاكسِ على غيرِ ما اعتدنا قبلَ إحدى وعشرين سنةً، حيث كنا نصعد بمحاذاة الطريق الزراعي التي تقسم الغابة شطرين غير متساويين حتى نبلُغ حافةَ المدينةِ والشاخِصةَ التي تحملُ اسمَها مشطوبًا. تبدأ الدرب في هذا الموقع إلى اليسار، حيث توقد نيران الاحتفال بالقديس يوحنا في شهر يونيو/حزيران من كل عام. سلكنا هذه الدرب الالتفافية إذ لم نرِد أنْ يرانا أحد. ولم نُرَ.

أقفُ إلى النافذةِ، أمامي بقايا أرُزٍّ على الأطباق. أرى الحقلَ الذي كنتُ أعبرُه أحيانًا، والدربَ الذي يحدُّه من هنا، والمرجَ الذي يحدُّه من هناك، أرى الغابةَ التي تمتدُّ صعودًا، والساريةَ المنتصبةَ أعلى الجبل. أرى الزرقةَ الخافتةَ التي تظلله والتي لن أسمِّيها المساء، أراها كلـَّها أمامي عبر وجهي الشفيف المنعكس على زجاج النافذة. أراها. أرى تضاريسَ الطبيعة والأسماءَ التي نادوني بها في السنوات التسع التي قضيتُها في هذه الشقة، والعشرين التي عشتُها في هذه البلدةِ الواقعةِ في فرانكونيا العليا، أرى اللاجئَ، أرى الأجنبيَّ، أرى القردَ، أرى الزنجيَّ، أرى المجلوبَ على النافذة التي تعكس وجهي، التي أرى من خلالِها الحقلَ الذي كنتُ أعبرُه أحيانًا، أرى وأعرف السنابل والخطوط البيض.

*نشر هذا النص أوّلاً في الأنطولوجيا “نحن هنا” الصادرة عن دار أليترا للنشر 2018، ويعاد نشره وترجمته بموافقة الكاتب.

في ورشة العمل الثانية للترجمة من الألمانيّة إلى العربيّة تحت إشراف المترجم يوسف حجازي، ترجم هذا النص من قبل المشاركين والمشاركات في الورشة وهم: أحمد عبد الحميد، هارون أحمد، مهدي أحمد، رائد الدرويش، لمى حداد، ياسمين العرياني، طارق المحمودي، آفا نجومي وصهيب الزامل.

تمّت الورشة بتمويل من صندوق الترجمة الألماني.