أم النسر، هكذا عرفها الجميع في الحي، على الرغم من سلسال العيال التي أثمرت بطنها.
امرأة محيرة، تعلب وجعها بقوة، وتوازي ما بين الكبرياء والفاقة بحطتها الرمادية التي راح الزمن يفقدها لونها.
أما الوشم على ذقنها وبعض مساحة من خديها، فما زال يصدح رغم ضياع بعض ملامحه في التجاعيد: من ارتسمت عليها هي جميلة البلد.
اسمها نصرة، ولأنها تمتلك دربة النسور في التقاط رزقها، شاء أبوها أن يطلق عليها اسم أم النسر. فهي الماهرة في جمع الفطر من السهول المجاورة لبلدة سعسع، بعد أن يدك الرعد الفضاء. ولا تعود إلى البيت إلا بكيس الخيش الممتلئ بالعكوب من التلال المجاورة.

اللوحة للفنان الفلسطيني أسامة دياب
نصرة لم تكن تعرف من الأرض سوى بلدة سعسع وما يحيط بها من سهول وتلال، ومخيالها يرسم بعض سهول وتلال أخرى من بلاد اسمها المغار، كان أبوها يحدثهم دوما عنها، ويحلو لها أن تشرب كلام أمها قطرة قطرة وهي تزين لقاء الفتيات عند عين الماء، وأسرار العشق المحرم.
زواج نصرة من ابن عمها الذي يسكن مخيم اليرموك، أفسح لها أن تعرف أرضًا غير الأرض، وأن ترى أبنية يعلو بعضها فوق بعض، والكثير الكثير من السيارات، وأن لا زمنًا تحتاجه لتلبس ثوبًا جديدًا.
نصرة لم تعد رهينة مزاج الخيّاطة لتفرح بألوان ثوبها، فواجهات المحلات تغص بما يحلو لها.
أبوها الخبير بالأرض والسماء، والذي لم يعرف له سوى اسم الدليل، نقل خبراته لزوج نصرة، ليتحول أبو أسعد إلى دليل ذاع صيته.
وصار بحكم خبرته، لا يطيل المقام في المخيم، بل تتوالى المهام له تباعًا، وسلسال ما أثمرت بطنُ نصرة من الذكور والإناث يفرض عليه أن يركب رجليه أغلب الوقت، فلا سهولاً تكرم بفطر، أو تلالاً تكرم بعكوب حول المخيم، وتجعل من نصرة التي لا تجيد غيرهما تقف معه في وجه الزمن.
نصرة، ومن نشرات الأخبار، وما يتسرب من همس زوجها مع الصحب، تعرف أن الأرض كبيرة وواسعة، تعرف أن بلادًا أخرى خلف البحار السبعة كما تعلمت من أمها، اسمها أمريكا، وأن بلادا تعرفها ببلاد الانجليز والفرنسيين، هي أرض أيضًا وفيها بشر مثل البلاد التي تعيش فيها.
وكثيرا ما كانت تتساءل: هل تعرف نساء تلك البلاد كيف يجنين الفطر والعكوب؟
ثم تجيب نفسها بفخر: بالتأكيد أنا أكثر خبرة، إذا كانت الكثير من نسوة بلادنا لا يعرفن ذلك، فكيف بنسوة بلاد ما بعد البحار السبعة.
ترفع رأسها بكبرياء العارف، وتهمس في دخيلتها: لو كان ثمة سهول وتلال هنا لكنت أبدعت، وجنيت من الأرض ما يساعدني على أن تطيل مقامك بيننا أبو أسعد، يا مهجة الروح وضوء العين.
ها هي أم النسر تضعني أمام المرآة من جديد، وتضع كل النساء اللواتي لا يمررن الثامن من آذار دون الاحتفاء بنسويتهن، ويأبين إلا أن يحملن الورود إلى نسوة كثر في المخيمات، دون أن يكلفن أنفسهن جهد أن يوضحن سر ما يحملن من ورود.
ذات آذار، حملت لأم النسر باقة من الورد، فهي تستحق كل ورود الكون بجدارة. فمنذ اختفاء زوجها من سنين، حملت على كاهلها حمل سلسال العيال.
تنظيف العكوب من شوكه يحتاج خبرة أيضا، وهي تمتلك تفاصيل كل سيقانه، وتعرف كيف تجعل منه سيقانًا بيضاوات، ومن كرات الشوك كرات بيضاوات مخضرة.
كل فجر يحمل لها تاجر الخضار ما تيسر من أشولة العكوب. وكلما ازداد عدد الأشولة ازدادت ابتسامتها عرضًا. فالمال الذي ستجنيه لا شك يمكّن بكرها من شراء ما يلزم لمشروع الجامعة، سنتان فقط ويصير أسعد مهندس قد الدنيا.
في الحقيقة، أم النسر التي طالما كانت تجعلها كبرياؤها تعلو على الفاقة والجرح، أخبرتني نظراتها المستنكرة لباقة الورد، أن صديدًا راح يغزو كل دقائق عمرها.
تنهدتْ، ثم زفرتْ وسألتْ: ما مناسبة باقة الورد يا بنيتي؟
التفتُ إلى صديقتي التي استنكرت سؤال أم النسر مثلي، وأجبتُها متلعثمة: نحن نحتفل بعيد المرأة.
ردتْ باستهجان: كمان صار عيد للمرأة؟
اتركوا المرأة بشحارها، لا ينقصها عيد، كل يوم تطلق جراحُها الزغاريدَ محتفلة بالوجع.
كلام أم النسر وضعني أمام مرآة، لأرى كم أنا صغيرة أمام أم النسر.
أم النسر التي لا تعرف من التاريخ سوى النكبة والنكسة، والزمن الذي مر على فقد زوجها.
أم النسر التي لا تعرف من أمريكا نيويورك، ولا تعرف أن ثمة نساء كن قد امتلكن دِربة أخرى غير جني الفطر والعكوب، خرجن قبل ما يقرب من القرنين، احتجاجًا على من يبني قصوره وخزائنه من لحمهن.
بل هي لا تعرف من الزمن ما معنى كلمة قرن.
أم النسر لا تعرف من منظمة الأمم المتحدة سوى الأونروا ومستوصف الخامس الذي عليها أن تزوره كل شهر من أجل دواء الضغط والسكري، ومركز الإعاشة الذي يوزع أربع مرات في الحول كما تسمي، بعض الطحين والزيت والعدس، وما فاض عن حاجة بعض الدول من أرز نخره السوس.
رحت وصديقتي اليسارية جدًا، نلملم حيرتنا وصغارنا أمام أم النسر التي تعرف كيف تقتلع الشوك من الأرض ليغدو وليمة أمام أمثالنا.
لكنها أبت إلا أن توجه صفعة لكلتينا، وهي ترفع يديها أمام ناظرينا وتقول بصوت يتفجر عتبًا وغضبًا: لو أردت ورودًا، لكانت ساحة الدار تغص بالألوان، فيداي هاتان نهلتا من نسغ الأرض وهما تحرثانها ما يجعلهما خضراوين ما حييت.
كل خط حفرته الأرض فيهما، يفيض على ورودكن بعطر لا تدركنه.
وبصوت فيه انكسار لا يدركه سوى من امتلك بصيرة: لو كانت باقة الورد مسطرة أو دفترًا أو قلمًا، أو حطة تستر شيبتي، لقلت: هناك من يسندني من جلدتي.
غشت وجهها بما تيسر من حطتها، لم تشأ أن نرى دمعة انكسارها وهي ترد الباقة لي ولصديقتي اليسارية جدا.
كنت وصديقتي نلملم خيبتنا ونحن نغادر بيت أم النسر صحبة ورود منكسرة، أما أم النسر فقد افترشت الأرض، وراحت تقتلع الشوك لما يمكنه أن يكون وليمة في بيتي
صحن عكوب متوج بالبصل وزيت الزيتون والفلفل الأسمر.