وصل الشاعر الفلسطيني السوري السويدي غياث المدهون إلى ألمانيا للمشاركة في معرض لايبزغ الدولي للكتاب وجولة قراءات في برلين، هامبورغ ولايبزغ بمناسبة صدور كتاب له بالألمانية عنوانه “وحش مفترس اسمه البحر المتوسط“ الصادر عن دار آرشِه الألمانية بترجمة لاريسا بندر. في هذه المناسبة التقت مجلة فن بالمدهون وكان الحوار التالي:

وحش مفترس اسمه البحر المتوسط، غياث المدهون، مجلة فن
فن: تعيش في السويد منذ 2008، وحصلت على الجنسية السويدية، بعد أن كنت لاجئًا في سوريا، وأصبحت تعرف نفسك بـ “شاعر فلسطيني سوري سويدي” هل ينعكس تعدد الهويات هذا على نصك؟ ألست تقول في قصيدتك “الحليب الأسود”: “يسألني المحقق في دائرة الهجرة: من أين أنت؟ أجيبه: لست أدري، فأنا لم أتزوج بعد”
المدهون: أنا فلسطيني، وولدت في سوريا من أب فلسطيني وأم سورية، وأعيش منذ عشر سنوات في السويد، في الواقع أنا لا أعيش في السويد بالمعنى الحرفي، إذ نادرًا ما أتواجد في ستوكهولم، فأنا رحّال بالمعنى الواسع للكلمة، صحيح أن منزلي في ستوكهولم، لكن ليس وطني، أتوفر هناك لأيام معدودة خلال السنة، أما الباقي فهو هروب متواصل إلى الأمام، لم يعد لدي القدرة على مواجهة هذا الواقع، أعيش اللحظة، وأحاول فهم الارتباك في هذا العالم المنيك، أنا أشبه بلصّ يصل ستوكهولم ليلاً، أتسلل فقط لتفقد البريد، أو ﺑﺒﺴﺎطة أﻗوﻢ ﺑﻐﺴﻞ ملابسي وأسافر ﻣﺮة أﺧﺮى، يبدو أنني ممن تنطبق عليهم آية “ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون”. على كلٍ، السفر المتواصل يوفر لي نوعًا من الاستقرار الداخلي الذي أحتاجه مع فقدان الاستقرار الخارجي.
قبل الثورة السورية، كانت ستوكهولم مكاني، وحين كنتُ أشعر بالتعب، كنت أُمنّي نفسي بأني ذات يوم سأعود إلى دمشق. لكن حين دُمرت دمشق التي في ذاكرتي، وحين قُتل الناس الذين يربطوني بدمشق، حين رأيت كيف أنَّ العالم يحاول إعادة تدوير الديكتاتور كما يُعاد تدوير القمامة بعد أن قتل الملايين، فقدت جذوري، وبدأت ستوكهولم بالتسلل خارج يدي.
أعود لسؤالك حول إن كان تعدد الهويات ينعكس على نصي، حقيقةً أنا لا أعتقد أنني متعدد الهويات، على العكس، أنا عربي جدًا، وثقافتي مرتبطة باللغة العربية، قرأت الكثير، ولكنني قرأت كل ذلك باللغة العربية. لكنني من المؤمنين بتأثير المكان، تأثير الأماكن هو التأثير الأكبر على الفنون حسب رأيي، طبعًا تأثير المكان يتضاعف في لحظات معينة، أي حين يتقاطع الزمان مع المكان في نقطة معينة، أو ما نسميه في الفيزياء الزمكان، كأن تكون في نيويورك يوم ١١ سبتمبر ٢٠٠١، أو في درعا يوم ١٨ آذار ٢٠١١. قد يكون تعدد الأماكن نابع من السفر، حب الترحال، المنفى القسري أو الاختياري، النزوح، وجميع أنواع الاقتلاع القسري من الجذور بسبب الحرب أو التهديد السياسي أو الكوارث الطبيعية، أو قد يكون مرتبطًا بالإقامات الأدبية، والتبادل الثقافي والمنح، إلخ، ليس مهمًا، ولكن تأثيره مهم، وهو ينعكس على العمل الإبداعي بوضوح، تستطيع أن تتعلم من خلال سفر أسبوع ما تحتاج لسنين لكي تكتسبه من خلال تواجدك في مكان واحد.

غياث المدهون، تصوير رامي العاشق، مجلة فن
فن: نقرأ في نصّك لغة مباشرة، تهرب من المجاز في أماكن، حتى أنك هاجمت المجاز في الشعر في حوارات سابقة، ولكن المجاز موجود في نصوصك، أليس هذا تناقضًا؟
المدهون: أنا لست ضد المجاز والتشبيه إن كان استعمالهما في مكانه، وحققا البعد الجمالي، وحاجة الشاعر في قول ما يريد قوله بأكثر طرق الإيجاز بلاغةً، ولكن أنا ضد استعمالهما للتورية السياسية، أو بسبب الخوف من الرقيب السياسي أو الديني إلخ، الاختباء وراء الترميز سقط بالنسبة إلي بعد الثورة السورية، أما الاستعارة فأنا ضدها بالمطلق، وهذا رأي شخصي يتعلق بالذائقة.
فن: مع صدور كتابك الجديد بالألمانية “وحش مفترس اسمه البحر المتوسط” تتساءل لماذا لا يطفو الناس وهم أحياء ويغرقون عندما يموتون، هذه الأسئلة الطفولية التي بذات الوقت أسئلة دقيقة وحقيقة، هل تشكل بالنسبة إليك أسئلة شعرية؟
المدهون: هذه الأيام صعبة بالنسبة إلينا كبشر، صعبة للغاية، لقد صمت العالم نحو المقتلة السورية منذ أكثر من سبع سنوات، والسوريون في هذه الأيام أصبحوا وكأنهم اليهود الجدد. لقد حصل هذ الأمر سابقًا، التاريخ يكرر نفسه كما يقول ماركس، وهذا شيء أستطيع أن أتعايش معه لأن العنف الممنهج كما أراه هو جزء من التاريخ البشري، أمَّا أن تكون قوانين الفيزياء ضد السوريين أيضًا، فهذا والله كثير، أن يغرق الإنسان حين يكون حيًا ويطفو حين يموت فذلك خلل فيزيائي مربك كان السوريون في غنى عنه.
كما قلت لك، هذه أيام صعبة، أصبح فيها حتى التناسي صعبًا، في الفترة الماضية أصبح من الصعب علي حتى أن أختلط مع الكتاب الآخرين، ماذا لو سألوني السؤال البسيط “كيف حالك؟” وهو ما يذكرك على الفور بانك لست جيدًا على الإطلاق. ماذا ينبغي أن يكون الجواب على مثل هذا السؤال الذي تحول من سؤال تقليدي بسيط إلى سؤال وجودي، لقد ذهب ألمنا إلى أبعد من الشكل التقليدي للألم هنا في أوروبا حيث أعيش. الناس هنا حساسون، لا يمكنك تذكيرهم بمدى سوء الوضع في كل مرة تقابلهم فيها، فإن فعلت، فإنهم يفضلون ألا يلتقوك.
لقد استخدمت “الحليب الأسود” لكي أستطيع أن أصف المرارة التي تأكلنا. بالطبع، هو الحليب الأسود الذي خلده بول سيلان. وكما تعلم فإن هذا الرمز قد تم إعادة تدويره واستهلاكه في الشعر الغربي لفترة طويلة، ولكن بحكم أنني لست أوروبيًا وقصيدتي عربية، فلا ضير. لقد فكرت مليًا في معنى الحليب الأسود منذ اللحظة التي قرأت فيها سيلان. في البداية، اعتقدت كما اعتقد الجميع أن سيلان يحاول أن يصف الموت في معسكر آوشفيتز. لقد كنتُ مخطئًا، الثورة السورية جعلتني أدرك ما هو الحليب الأسود حقيقةً. الحليب الأسود هو ليس القتل الممنهج لليهود في معسكرات الاعتقال، الحليب السود هو صمت العالم تجاه ذلك القتل الممنهج. واليوم، هو صمت العالم تجاه قتل السوريين الممنهج. لقد أدركت أن الأوروبيين كانوا كاذبين حين قالوا إنهم لم يكونوا يعرفون بأفعال النازيين. انظر إليهم الآن، يعرفون كل شيء عما يفعله الأسد بالسوريين ولم يحركوا ساكنًا.
فن: كتب على غلاف كتابك “أدرينالين” الصادر بالإنجليزية، “هكذا يجب أن تكون القصائد السياسية” هل تعتبر قصيدتك سياسية؟
المدهون: بعض الناس يعتقدون أني أكتب شعرًا سياسيًا، يمكن أن يكون صحيحًا من وجهة نظرهم، لكنّي أرى الأشياء من زاوية مختلفة. هذه ليست سياسة، هذه حياتي. لا أعتقد أن شعري سياسي ولكن حياتي هي المعجونة بتأثيرات الظروف السياسية، قصائدي ببساطة تعكس حياتي وما يحيط بي، هي مزيج من ذكرياتي وتجاربي المنعكسة في مرآة مكسورة، إنها طريقتي للحفر عميقا في داخلي، أنا مصنوع من كتلة من المشاعر والتناقضات. ولدي تصور أن الشاعر هو مقياس ريختر الذي يقيس الاهتزازات الناجمة عن المشاعر والذكريات البشرية.

شاعر وكاتب وصحافي، رئيس تحرير مجلة فن