عبّر شعراء العامية المصرية عن هموم الإنسان المصري وأمانيه، فمن بعد بيرم التونسي الذي يعد بمثابة الأب الشعري لقصيدة العامية المصرية، كتب عبد الرحمن الأبنودي ديوان “جوابات حراجي القط”، تحدث فيه عن العمال الذين بنوا السد العالي، وكتب الشاعر أحمد فؤاد نجم العديد من القصائد التي عاصرت معظم الأحداث السياسية في الحياة المصرية، مثل قصيدة “كأنك مفيش” في معارضة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك. ما قدمه “نجم” كان غنائيا غالبًا، وجاء انتشاره نتيجة خفّته وقبول الناس له بوصفه غنائيًا وسياسيًا في الوقت ذاته، وكتب صلاح جاهين رباعياته الشهيرة، وفؤاد حداد وسيد حجاب وفؤاد قاعود، كلهم تركوا ما يثري شعر العامية المصرية.
ربما هذه التضامن الوجداني من قبل هؤلاء الشعراء، أكسبهم صيتًا كبيرًا بين جموع الشعب المصري، وغالبية قرّاء شعر العامية المصرية، لكن بلا شك، جعلهم “نجوم” شعراء العامية المصرية.
غياب شاعر لا يعوضه شاعر آخر

الشاعر زين العابدين فؤاد
يرى الشاعر “زين العابدين فؤاد” أن غياب شاعر لا يعوضه وجود شاعر آخر، فلكل شاعر قيمته المتفردة، وغياب الشعراء أمثال صلاح جاهين، فؤاد قاعود، سيد حجاب، عبد الرحمن الأبنودي، فؤاد حداد، لم يعوضه وجود شعراء آخرين.
وعن تأثير هؤلاء الشعراء في تاريخ شعر العامية المصرية، يستطرد “فؤاد”: كان لفؤاد نجم تأثيره الكبير في حركة الشارع المصري خاصة في ظل وجود أحداث سياسية مثل ثورة الخامس والعشرين من يناير حيث كانت قصائده وأغانيه حاضرة على ألسنة المتظاهرين بميدان التحرير، مثل “شيد قصورك” التي كتبها في سجن القلعة 1973، كما كان للشاعر سيد حجاب تأثيره الخاص في من حوله، وهذه ميزة خاصة تميز بها، بالإضافة لإنتاجه الذي لم يتوقف لآخر فتره في حياته، فقبل وفاته كتب أشعار المقدمة والنهاية للجزء السادس من العمل الدرامي “ليالي الحلمية”، أما عبد الرحمن الأبنودي الذي كان يحتك بكل أطياف الشعب المصري ووصل شعره للمواطن العادي، أثّر عليه الإعياء والمرض قبل وفاته، خاصة بعدما طلب منه الأطباء الانتقال من مدينة القاهرة لمكان أكثر نقاءَ، فسكن في قرية الضبعية بمدينة الإسماعيلية، فأثر عليه وجوده هناك وقلل من احتكاكه بالجمهور، ومنعه من التواصل المباشر، ويظل إنجازه الكبير المتمثل في جمع السيرة الهلالية من الشعراء الشعبيين في مجهود ظل أكثر من عشرين عامًا من السفر في غالبية محافظات مصر، وصدرت في خمسة أجزاء في فترة السبعينيات.
وعن وجود أجيال جديدة تستطيع إثبات نفسها، يؤكد “فؤاد”، على أن شعر العامية المصرية، رغم الخسارة الكبيرة والموجعة التي أصابته في السنوات الأخيرة، خاصة بعد رحيل أحمد فؤاد نجم في ديسمبر 2013، وعبد الرحمن الأبنودي في أبريل 2015، سيد حجاب في يناير 2017، لكن هناك أصوات جديدة جيدة ما زالت تنعش هذا المجال الشعري وتكتب القصيدة العامية الجيدة بكل أشكالها، أمثال مصطفى إبراهيم، أمنية عبد الله، ايرين يوسف، خليل عز الدين، مصطفى أبو مسلم.
محاولات أولية

د. جابر عصفور
يؤكد الناقد الدكتور جابر عصفور، أن غياب هؤلاء الشعراء لم يعوضه وجود شعراء آخرين، فكل ما يوجد الآن هو محاولات أولية لشبان صغار، وللأسف لا ترقى لمحاولات عبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب في بداياتهم، فعندما صدرت الدواوين الأولى لهما عام 1964، “الأرض والعيال” للأبنودي، و”صياد وجنية” لحجاب، كانت بمثابة نبوءة قوية لاستقبال شاعرين مهمين في شعر العامية المصرية.
وبخصوص الشاعر أحمد فؤاد نجم، يلفت “عصفور”، إلى أن قيمة ومدى إنجازه الشعري أقل من “الأبنودي” و”حجاب”، فهو ليس بالموهبة التي تضعه في مكانة هؤلاء، فكتابته لشعر العامية جاءت مصادفة أثناء وجوده في السجن مع الشيوعيين، فوضعوه في طريق الكتابة، فهو أحد أبناء الطبقة العاملة الذين كتبوا شعر العامية المصرية بالممارسة بعد ذلك.
الإعلام يروج للرديء
ترى الناقدة والشاعرة نجاة علي، أن الشعراء الكبار أمثال سيد حجاب، أحمد فؤاد نجم، صلاح جاهين، أصحاب مواهب كبيرة جدًا، يصعب تكرارها مرة أخرى، في ظل الأوضاع الثقافية التي تمر بها مصر الآن، فالإعلام لا يروج للمواهب الكبيرة الصاعدة، بل يروج للكتابات الرديئة “اللايت”، والقنوات التلفزيونية لا توجد لديها خطة لجذب المواهب أو تصعيد الجيد منها، وبالتالي حصلت بعض الأسماء الرديئة من الشعراء والشاعرات على قدر كبير من الجماهيرية أدت إلى فساد الذوق الأدبي.
وتؤكد “نجاة علي”، أن الشاعر عبد الرحمن الأبنودي لا يمكن اختزاله في صفة “شاعر” فقط، فهو مدرسة أدبية متكاملة في شعر العامية المصرية، ولديه رصيد كبير لدى الجمهور، خاصة وأنه خاطب كل فئات الشعب، فكتب للفلاح والمواطن العادي والمرأة وعن الثورة.

الشاعرة والناقدة نجاة علي
وتشير “علي”، إلى أن المواهب الجيدة موجودة، لكنها ليست بنفس موهبة الشعراء السابقين، وتلك المواهب أمثال الشاعر محمود الحلواني، محمد الصاوي، بعضها عازف عن التواجد في الإعلام والظهور في القنوات التلفزيونية، فضلًا عن أن الأعمال التي تُنشر ورقيًا لا تحقق نفس الرواج الذي تضيفه القنوات التلفزيونية للمبدع.
حالة من الازدهار
يؤكد “حسين حمودة” أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة، على أن شعر العامية المصرية يشهد حالة من حالات الازدهار في هذه الآونة، وهناك عدد كبير من الشعراء والشاعرات لهم إسهامات وإصدارات مهمة في هذا المجال، ومن يطالع الأعمال الشعرية بالعامية المصرية التي تقدم في جائزة أحمد فؤاد نجم يتأكد من هذا الأمر.
ويلفت “حمودة”، إلى أن هناك ملاحظة حول هذا النتاج الشعري الواسع والكبير، فرغم هذه الإصدارات والنشاط الواسع، لم يتبلور اسم لنجم أو نجمة في شعر العامية المصرية حتى الآن، كما كان الحال في فترات سابقة.
وعن عدم وجود “النجم” في شعر العامية المصرية في هذه الفترة، رغم وجود حالة من حالات الازدهار، يوضح “حمودة”، أن السياق الذي يخلق “النجوم” أصبح مختلفًا، وربما تشكلت ظواهر أخرى تشبه ظاهرة “الثريا” التي تعني وجود عدد كبير من النجوم، في حيز متقارب، بما ينفي التركيز على نجم واحد من بين هذه النجوم.
أما عن تأثير شعراء العامية “النجوم”، على الشعراء التالين لهم، يقول “حمودة”: إن هذا التأثير يمكن أن يكون محدودًا، واضحًا وغير واضح، ولكن المؤكد أن هذا التأثير يتمثل في استكشاف اللهجة العامية باعتبارها طريقًا معترفًا به للإبداع الحقيقي، وهناك عدد كبير من الشعراء التالين للأبنودي وحجاب وجاهين، أطلق عليهم “شعراء السبعينيات” وما بعدها، فلهؤلاء أيضًا إنجازات مهمة للغاية، وبعضهم صدرت له أعمال كاملة، كما هو الحال مع ماجد يوسف مثلًا.
وأشار أستاذ الأب العربي بجامعة القاهرة، إلى أن شعر العامية بحالته المزدهرة الحالية، يحتاج إلى اهتمام أكبر على المستوى النقدي والإعلامي، وأيضًا على مستوى النشر في الصحف والمجلات.