بدايةً

هذه مختارات من كتب التراث العربيّ القديم، لكن، والحقّ يُقال، كما أنَّ في الكتب كنوزًا، فيها كذلك، الكثير من المخاطر، لذا نستحضر هنا تحذيرات الجاحظ حول المعرفة والكتب: “إن الكتب لا تُحيي الموتى، ولا تحوّل الأحمق عاقلاً، ولا البليد ذكّيًا (….) ومن أرادَ أن يعلمَ كلَّ شيء، فينبغي لأهله أن يُداووه[1]”. وينقل الجاحظ عن الخليل بن أحمد الفراهيديّ النصيحة التالية: “تكثّرْ من العلم لتعرفَ، وتقلّل منه لتحفظ [2]”.

لوحة للفنّان ياسر الغربي

وقيل عند العرب القُدماء:

التأليف على سبعة أقسام، لا يؤلف عالم عاقل إلا فيها: لم يُسبق إليه فيخترعه، ناقص يتمّمه، مغلق يشرحه، طويل يختصره دون أن يخلَّ بشيء من معانيه، متفرق يجمعه، مختلط يرتبه، وأخطأ فيه مصنِّفه فيصلحه.

عشر العُشر

“ما تكلّمت به العربُ من جيّد المنثور، أكثرُ ممّا تكلّمت به من جيّد الموزون، فلم يُحفظ من المنثور عُشرهُ، ولا ضاع من الموزون عُشره[3]”. وضاع من عُشر المنثور المحفوظ، المتوسط والرديء؛ إذ كتب أهل الأدب “أحسن ما يسمعون[4]”.

حكاية 1

جاءَ فتيانٌ إلى أبي ضَمضَمٍ بعد العشاء، فقال لهم: ما جاء بكم يا خُبثاء؟ قالوا: جئنا نتحدّث، قال: كذبتم، ولكن قُلتم كَبَر الشَّيخُ فنتلعَّبهُ، عسى أن نأخذ عليه سقطة، فأنشدهم لمائة شاعرٍ، وقال مرةً أخرى لثمانين شاعراً، كلّهم اسمهُ عمرو[5].

حكاية 2

“أكتب شعري؛ فالكتاب أعجب إليّ من الحفظ، إنَّ الأعرابيّ لينسى الكلمة قد سهر في طلبها ليلةً، فيضع موضعها كلمة في وزنها لا تساويها، والكتاب لا يُنسى، ولا يبدل كلامًا بكلام[6]”.

حكاية مضادة لحكاية 2

يُذكر أنَّ رجلاً جاء إلى عبد الله بن عبّاس فقال له: إنّي كتبتُ كتابًا أريدُ أن أعرضهُ عليك، فلّما عرضهُ عليه أخذه منه ومحاه بالماء، فقيل لعبد الله: لماذا فعلتَ ذلك؟ قال: لأنهم إذا كتبوا اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ فيعرض للكتاب عارض فيفوت علمهم[7].

الفراغ

هناك كتابٌ عربيّ يختصُّ باليقينيات، لم تُرَ منه نسخةٌ واحدة، نسيَ واضعه صالح بن عبد القدوس حتّى قراءتهُ، إلّا أنه كان يحكي عنه كثيرًا، وحين مات ولده، وجاء الشيخ العلّاف لمواساته، كان الجزع يُنهك بن عبد القدوس على فراق الولد:

  • “لا أعرف لحزنك وجهًا إذا كان الناس عندكَ كالزرع”

لم يكن الحزن على الولد، سيرد ابن عبد القدوس: إنمّا أتوجع عليه لأنَّه لم يقرأ كتاب الشكوك.

  • وما كتاب الشكوك؟
  • “كتابٌ وضعته. من قرأه تشكّك فيما كان حتّى يتوهم أنَّه لم يكن، وفيما لم يكن حتّى يتوهم أنَّه قد كان”.

ردَّ العلّاف: “فشكَّ أنتَ في موتِ ابنكَ واعمل على أنَّه لم يمت وإنّ كان قد مات، وشكَّ أيضًا في أنَّه قد قرأ كتاب الشكوك وإن كان لم يقرأ[8]”.

ربّما ما دفع صالح بن عبد القدوس إلى اختراع كذبته وتصديقها، الفراغ الذي كان يعيشه. كان أبو علي الدقاق يقول: الفَراغُ ملكٌ لا غايةَ له”. وكان يدعو: يا إلهي العظيم، اجعلني نملة واتركني في القشّ.

الكتّاب

“من لم يكتب فيمينهُ يُسرى (…)، وإذا لم تكتب اليد فهي رجلٌ” والقول لمعن بن زائدة”. والجاحظ يروي:

“وسئل ثمامة بن أشرس يومًا وقد خرجَ من عند عمرو بن مسعدة، فقيل له: يا أبا معن ما رأيتَ من معرفة هذا الرجل، وبلوت من فهمه، فقال: ما رأيت قومًا نفرت طبائعم عن قبول العلوم، وصغرت هممهم عن احتمال لطائف التمييز – فصار العلم سبب جهلهم، والبيان علم ضلالهم، والفحص والنظر قائد غيّهم، والحكمة معدن شبههم – أكثر من الكتّاب.

[1] – الحيوان- ج1 ص59-60.

[2] –  المصدر السابق ج1 ص 258

[3] – الجاحظ على لسان عبد الصمد بن الفضل بن عيسى الرقاشيّ – البيان والتبيين ج1 ص 287″

[4] – العسكري على لسان يحيى بن خالد – المصون في الأدب.

[5] – ابن قتيبة- الشعر والشعراء  ج1  تحقيق أحمد محمد شاكر –دار الحديث – القاهرة- ص 62 .

[6] – ذو الرمّة (العصر الأموي) لعيسى بن عمر-  صبح الأعشى – القلقشنديّ ج1 ص 36.

[7] – خزائن الكتب العربية في الخافقين 982 نقلاً عن أحمد زكي باشا – الحضارة الإسلامية ص 77-78

[8] – تكملة الفهرست ص2 المطبعة الرحمانية بمصر بدون تاريخ. تحقيق(أحد أستاذة الجامعة المصرية)