“أنا مش جاية ككاتبة، إنما كموضوع” هكذا قالت الكاتبة المصرية ليلى سويف عن مجيئها إلى برلين للمشاركة بمهرجان الأدب العالمي، حيث قدمت بدعوة من الكاتب الأمريكي سكوت أندرسون لمناقشة كتابه “كيف تفكك العالم العربي؟”، والتي كانت إحدى الشخصيات التي حاورها في الكتاب.

“الكتاب هو سبب الدعوة، أسعدتني جدًا، والكتاب أعجبني. فيها شباب مصري عزيز على قلبي جدًا، وكانت فرصة أن ألتقي بهم” قالت ليلى. وتابعت: “الإحساس بأنه مهرجان، كان مختلفًا، نحن العرب؛ مهرجاتنا هي حاجة دوشة وزحمة كده أوي، تخيّلت المهرجان مثل معرض الكتاب في القاهرة، وهو مش كده خالص، إنما حاجة هادية جدًا، حصلّي صدمة ثقافية شوية إنه ده اسمه مهرجان، طبعا هذا ليس انتقادًا إنما اختلاف بالرؤى. هو أقرب إلى مؤتمرات الرياضات”، وضحكت.

ليلى سويف

وُلدت ليلى سويف في لندن 1956، هي أستاذة جامعيّة وناشطة سياسيّة في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني، وعضو مؤسّس في كل من مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات والجمعية المصريّة لمناهضة التعذيب. شريكة حياة الحقوقي المصري الراحل، أحمد سيف، ووالدة علاء عبد الفتاح، القابع في سجون السيسي، ومنى وسناء سيف.

فن: من خلال تواجدك في برلين، ولقائك بالعديد من الشباب المصري، هل ترين ازديادًا في الهجرة من مصر في السنوات الأخيرة؟

ليلى: “طبعًا. كل الشباب الذي أعرفه، باستثناءات قليلة، يحاول الخروج من مصر. ليس فقط من هو مطارد سياسيًا، حتى أولئك غير المطاردين، والذين لديهم وظائف جيدة، يريدون الخروج، الحياة في مصر أصبحت صعبة جدًا. وللأسف، الناس الذين يحصلون على فرص للخروج من مصر، هم أكثر من نحتاجهم. أنا لا ألومهم.. فليسافروا، كي يحافظوا على أنفسهم، لأنه، الله أعلم، لو بقيوا في مصر، ماذا سيحصل لهم”.

“الوضع الحالي مرعب. هنالك بالفعل خطورة حقيقية على أي أحد يعترض على شيء”

فن: النضال في عهد السادات، مبارك، والسيسي، ما المشترك والمختلف فيما بينهم؟

ليلى: “إن عهد السيسي هو أخطرهم وأصعبهم، أخطر بالفعل، بمعنى أن الناس مهددة بحياتها وحريتها، هو نظام أكثر توحشًا من العهدين السابقين الذين عاصرتهما. وهذا مفهوم، بمعنى أنه نظام جاء بعد ثورة، هو نظام خائف يحاول إخماد ثورة، ولا يحاول أن يجعل الحياة تمشي في ظل احتجاجات مثلما كان يفعل مبارك. بما يتعلق بعهد السادات، فالمقارنة صعبة، لأنه كان عهدًا قصيرًا، ولأنه، في فترته الأولى، حاول تنظيم الحياة بالطريقة التي تجعل الناس تتحرك، وهكذا.

لم يمرّ على مصر نظام غير قمعي، الشكل يختلف، الفئات التي يقع عليها القمع القوي تختلف. كلها أنظمة قمعيّة ومنتهكة لحقوق الإنسان، إنما طبعا، نظام السادات ما عدا الشهرين الأخيرين الذين أصيب فيهما بالجنون، ومبارك كذلك، كانا يعملان على توازنات ويتركان هوامش، وبالتالي، كان هناك مجال ليس قليلاً لنضالات كثيرة على قضايا متعددة، إن صح التعبير. هذا غير موجود الآن، الوضع الحالي مرعب. هنالك بالفعل خطورة حقيقية على أي أحد يعترض على شيء، أو أي شخص كان متعرضًا في السابق واليوم يفرض عليه أن يقدّم فروض الطاعة والولاء وأن يبيع أصدقاءه، يوجد انتقام من ماضي الناس. في الوقت ذاته، ثمة أناس يصرون أن يقاوموا، وهذا طبيعي. التصوّر المجنون بأنه يمكن إسكات كل الناس، غير قابل للتحقيق الفعلي”.

“اليوم، لن يقبل المواطن الذلّ”

فن: هل ما زال هنالك حراك محسوس على أرض الواقع؟

ليلى: “هنالك من يتحرك، لكن الحركة غير قوية وغير عملية، الأكثر من ذلك؛ هنالك حالة من الرفض، يوجد رفض للانصياع حتى بلا حركة فعلية. هنالك مثال أكرره كثيرًا، بأنه لو نظرنا للأحداث اليوم، نجد أحداثًا متكررة لأن يقتل ضابط مواطنًا لخلاف ما، وهذا حدث متكرر ومرعب جدًا، وبالطبع، لا من يحاسب الضباط، لكن عندما تتأملين في التفاصيل، ستجدين شيئًا متكررًا: حصل خلاف، أيًا كان مفجر الخلاف، والضابط أساء الأدب والتصرف للمواطن الذي أمامه، والمواطن رفض أن يخضع للذلّ والإساءة، مما زاد الخلاف أكثر ومن ثم قتله الضابط. الحدث بمثابة مأساة، لكن لو قارناه بما كان سيحدث قبل 10 سنوات، كان المواطن يخضع ولن يرد الإساءة ولن يُقتل، لكن اليوم، لن يقبل المواطن الذلّ، بمعنى أن هنالك شيء قد تغيّر، الناس، وبالأخص الشباب، غير مستعد لتقبل عملية الإذلال الممنهج مثلما كان يتقبل في السابق. هنالك رد عنيف من رجال النظام على هذا، وما من محاسبة للضباط، لكن رد فعلهم لا يكسب روح الناس، هذا ليس تحركًا، لكن هنالك تغيير قد حصل.

تمامًا كمسألة التحرّش بالنساء، التحرّش موجود في الماضي كما اليوم، لكن اليوم، النساء يواجهن ويقمن بالرد، وجزء من العنف الذكوري هو رد فعل على مطالبة النساء بحقوقهن، ورد الفعل الذكوري مرعوب من ذلك ويأخذ أشكالاً أكثر عنفًا، هنالك تغيير بإحساس الناس بأن لديها حقوقًا ولا تقبل بالذلّ”.

“لم يعد بالمقدور أن نفعل شيئًا سوى الفضح”

فن: ما هو واقع الحركة الحقوقيّة اليوم في مصر؟

ليلى: “سيئ جدًا. إن أكثر ضربة قوية حصلت هو أن القضاء أصبح في معسكر الأعداء، قبل ذلك كان يمشي على قوانين ومعاهدات دولية وصورته كقضاء في العالم، رغم الفساد في المنظومة والطبقية أيضًا، لكن كان يقدّم شيئًا، لو لديك متهم، ووقع عليه قمع ما، سيصل إلى المحاكم وتستطيعين هناك أن تفعلي شيئًا. اليوم، هذا انتهى، القضاء أصبح جزءًا من النظام وأدوات قمع السلطة للناس، وهذا أكثر ما كسر قدرة الحركة الحقوقيّة، لم يعد بالمقدور أن تفعل شيئًا سوى الفضح، إلى جانب ذلك، الوضع الدولي عامة، الذي أصبح مستعدًا أن يتغاضى علنًا عما يحدث للناس. طوال الوقت لم تكن حقوق الإنسان قضية مهمة للحكومات، لكنها كانت تنحرج، اليوم هذا غير موجود لدى كافة الحكومات، بما في ذلك الغربية، التي تتجاهل أيضًا ضغوط ناسها ومصالحهم، هنالك محاولة لأن تخسر كل الشعوب جزءًا من مكاسبها التي حققتها خلال الخمسين سنة الأخيرة، مكاسب ثورات الشباب وغيرها.. هنالك محاولات لأن ترجع كل الشعوب ثلاث خطوات إلى الوراء، لذلك يجب أن نقاوم جميعنا معًا ونقف إلى جانب بعضنا البعض”.

“عرفت أن مذبحة تل الزعتر قد حدثت، ومن وقتها قلت التوبة”

علاء عبد الفتاح

فن: بعد كل هذه السنوات، والنضال المستمر، وملاحقة العائلة لسنوات طويلة، ابنك علاء في السجن… ما الذي يجعل ليلى سويف تواصل نضالها كل يوم من أجل حقوق الإنسان؟

ليلى: “أولاً، أنا جزء من هذه المرحلة التاريخيّة، وقد وعيت على الدنيا والسياسة والشؤون العماليّة مع هزيمة العامّ 1967، عندما كنت في الحادية عشر من عمري. بدأت من هذه النقطة، تصوري قد إيه في الأسفل. النكسة هي حدث كسر كل المنطقة، وكل التدهور بدأ من هناك واستمر. ثمة قصة لن أنساها أبدًا، ففي العام 1976 كنت أزور أختي التي كانت تدرس الدكتوراه في إنجلترا، وكانت تعيش في بيت منعزل في الريف، على مدار 3 أيام بقيت في البيت وحدي، لم أقرأ صحفا، وبعد هذه الأيام، قرأت الأخبار، وعرفت أن مذبحة تل الزعتر قد حدثت، ومن وقتها قلت التوبة! لن يمرّ يوم بلا أن أقرأ فيه الأخبار، كأن الدنيا عاقبتني على ابتعادي عن قراءة الأخبار بشيء أسوأ من خيالي”.

“2011 كانت فرصة، ساهمنا جميعًا في تضييعها”

فن: ماذا كان شعورك لحظة بداية ثورة يناير 2011، عندما رأيت الشباب في الشوارع والميادين؟

ليلى: “2011 كانت فرصة، ضمّت إمكانية حقيقية لأن نغيّر الأوضاع، لربما لم تكن إمكانية لأن نمشي بمسار إصلاح راديكالي، لكن كان هنالك أمل لأن نمشي بمسار يصبح أفضل مما كان ومن الحالي، والحالي غير محتاج للحديث عنه. كانت لدينا فرصة لأن نحسن في أساسيات التعليم، الرعاية الصحية، الوصول للثقافة، المساواة في المعاملة، وهذه الفرصة كانت بالفعل موجودة منذ بداية الثورة ولغاية بداية 2013 عندما أصبح اهتزاز حقيقي في توزيع السلطة والقوى في مصر. كانت فرصة، وللأسف هذه الفرصة ضاعت، وبدرجة ما جميعنا ساهمنا في تضييعها، وهنالك من ساهم أكثر من غيره.  كان واضحًا منذ بداية الثورة أن القوى التي ضدها، مثل المجلس العسكري، كانت تعيد تنظيم صفوفها، الأنظمة الغربية كانت مستعدة لأن تتعايش مع نسخة مخففة جدًا من الثورة، والأنظمة العربية لم تكن مستعدة لأن تتعايش مع أي شيء، جميعهم حاولوا تنظيم صفوفهم، نجحوا، ونحن ضيعنا الفرصة، والجميع ساهم في ذلك، سواء الإصلاحيون أم الإسلاميون أم العلمانيون أم الراديكاليون الإسلاميون أم الرادكاليون العلمانيون، كل طرف كان له مساهمة لأن تضيع الفرصة. برأيي أن مساهمة الإصلاحيين كانت أكبر، سواء الإسلاميون منهم أم العلمانيون، كانت أكبر ليس لأنهم أكثر شرًا، إنما لأن الرادكاليين لم تكن لديهم أدوات سياسية، الإصلاحيون كانوا في مواجهة سؤال السلطة. وللأسف، لم يعرفوا أن ينتقلوا من المزاج الإصلاحي إلى المزاج الثوري، وبقيوا في المزاج الإصلاحي وحاولوا إسكات المزاج الثوري، معتبرين أن مزاج الثورة فعل ما عليه، وقد خربت هذه المعادلة الدنيا”.

“حركة جماهيريّة مهزومة”

فن: هل لديك أمل؟

ليلى: “نعم، الأمل كشيء عملي. الناس لن تترك نفسها هكذا حتى تموت من الجوع أو القهر. الناس تقاوم وستقاوم أكثر. وعلى كل مساوئ الوضع الحالي، برأيي هو أفضل من الوضع ما قبل 2011. الوضع اليوم أصعب وأخطر، لكنه أفضل. نحن منذ العام 2000 ولغاية 2011، كنا عندما ننظّم احتجاجًا، نكون 30 شخصًا، ولم يكن هنالك من يسمعنا، وكان جزء كبير منا يعمل بشكل نخبويّ تمامًا. هنالك فرق عندما تكوني جزءًا من حركة جماهيريّة مهزومة، أو ألا تكوني جزءًا من حركة جماهيريّة. نحن الآن في واقع حركة جماهيريّة مهزومة، الجماهير لم تقرر بأننا أولاد كلب ومن حق الضباط ضربنا أو تعذيبنا، بل خافت وجلست جانبًا قليلاً، اقتنعت أنها اليوم لا تستطيع فعل أي شيء، لكن القيم الأساسيّة التي خرجت الناس من أجلها عام 2011، لم ينكرها الناس، وما زالت موجودة، مقارنة بواقع ما قبل 2011، عندما لم تفكر الغالبية بهذه القيّم ولم تسمع عنها”.