كلّما تزعزع الأمن في دولة مجاورة وُلد مهرجان ثقافيٌّ جديد في عمّان، وازدحمت الصالات والمسارح وقاعات المؤتمرات باللهجات العربيّة؛ أردنيّة وفلسطينية وعراقيّة وسوريّة بوجه خاص، ولهجات عربيّة أخرى بشكل عام.

على الجهة الأخرى، شهد هذا الصيف في الأردنّ فعاليات نوعيّة تُقام لأوّل مرّة: أوّل مهرجان أوبرالي في العالم العربي يقدم إنتاجًا لأوبرا “لاترافياتا” لجوزيبي فيردي، وأول حضور للمغني الأوبرالي أندريه بوتشيلي، وعودة عروض أوركسترا فلسطين للشباب.

بات الأردنُّ ملجأً للفعاليات الثقافيّة والمثقفين العرب أيضًا بسبب ما يجري في دول الجوار، مجلة “فن” تسلّط الضوء على آراء بعض من مرّ بالأردنّ، أو أقام فيها من العربّ العاملين في الشأن الثقافي، كما وتستعرض أهم ملامح النشاط الثقافي وأبرز ما تغيّر على الساحة.

رابطة الكتّاب الأردنييّن

لم يكن ما يجري في الوطن العربيّ ليمرّ على رابطة الكتّاب الأردنييّن دون أثر؛ مع اندلاع الثورة في سوريا شهدت الرابطة جدالات في بادئ الأمر، تطورّت إلى خلافات ثم انقسام بين مؤيّد للنظام السوريّ (تيّار القدس والثقافي التقدميّ) ومعارض للنظام (القومي التقدميّ). سيتسبب هذا الخلاف بشكل مباشر أخيرًا في خسارة مؤيدي النظام انتخابات الرابطة، بنتيجة قاسية، لأوّل مرة في تاريخها، وكان ذلك في عام 2015، إذ لم يحصل المؤيدون على أي مقعد في إدارة الرابطة، وكان ذلك بعد سيطرتهم على أكثر من دورة سابقًا.

أندية القراءة والمشاريع الثقافيّة

أحمد قطليش، خاص

بعد الثورة السوريّة شهدت عمّان ارتفاعًا ملحوظًا في أنشطة أندية القراءة التي يُشارك فيها ويديرها الشباب، كذلك صار يُمكن قراءة اسم جديد لشاعر أو فنان سوريّ في أمسية أو فعاليّة، نشطت الحوارات؛ يُشارك الشاعر محمد طكو في أمسيات شعريّة، يُوقع رامي العاشق ديوانه الشعريّ الأوّل، بالإضافة إلى أمسيات ولقاءات ثقافيّة في “جدل” للثقافة. سيُتابع الكاتب أحمد قطليش مشروعه الذي بدأه في إذاعة القدس بدمشق القائم على تسجيل النصوص الأدبيّة صوتيًّا في عمّان أيضًا حيث أطلق فيها قناة للأدب الحديث المسموع.

يقول قطليش لمجلة فن: “أردت أن أتابع حياتي بشكل طبيعي، شأني شأن أي فرد أردني يحاول أن يقدم ويطوّر من نفسه في جوٍّ ثقافيٍّ مُرتبك وغير مستقر. حيث أن التجارب الثقافية الشبابيّة كنوادي القراءة، وإن كانت تقدم بعض الكتب غير المهمة، إلّا أنها في كثير من الأحيان كانت تدفع إلى حالات نقاش عميقة”.

يُضيف قطليش حول التنظيم الثقافيّ في الأردن: “هناك العديد من المبدعين في كافة المجالات في الأردن لكن هناك غياب لأيّ تأسيس حقيقي مؤسساتي يمكن البناء عليه.. ربما هذا الحال شبيه بكثير من البلاد العربية، لكنني أظنه في الأردن أصعب، خاصة مع وجود أسماء مهمة يتم تهميشها”.

تطورت القناة التي يعمل من خلالها قطليش لتتجاوز استماعاتها الثلاثة ملايين مستمع، بمعدل 5000 استماع يوميًا لمقاطع صوتية قصيرة منتقاة من “الشعر، القص، المسرح.. الفكر أحيانًا” فازت القناة بجائزة لأفكار المشاريع. وكان العمل جاريًا لتحويل القناة إلى منصة خاصة بأصوات متعددة بخطة انتشار واسع تضمن استمرارية الموقع ماديًا للقائمين عليه وللكتاب أيضًا. لكن بعد الحصول على منحة تمويل للمشروع توقف المشروع وألغي بسبب القرار في الأردن بمنع تمويل السوريّ في هذه الجوانب. وهاجر قطليش من الأردن بعدها إلى ألمانيا.

الثقافة الرسميّة

في تصريح مقتضب لوزيرة الثقافة الأردنيّة السابقة د. لانا مامكغ، تناقلته وسائل إعلام رسميّة، تقيّم الوزيرةُ الثقافةَ في الأردن بأنَّها تأثرت سلبًا باللجوء السوري، دون أي إيضاحات أخرى، غير أنَّ تفاصيل هذا التأثر السلبيّ الذي ادّعته الوزيرة سيأتي من فيصل العجيان مدير مديرية الثقافة في مدينة المفرق وهي أكبر محافظة تحتضن اللاجئين السوريين، حيث قال: “توجد في محافظة المفرق (22) هيئة ثقافية كانت تقوم بواجباتها على ما يرام قبل أزمة اللجوء السوري، إلا أن توجه أغلب مؤسسيها إلى تغيير أهداف هيئاتهم لتتواءم مع العمل الخيري للحصول على التمويل، أثر سلبًا وأضرّ بالقطاع إلى حد كبير”.

ومثل العجيان، ذهب أحد المسؤليين إلى مناقشة كيف غيّرت المسلسلات الدرامية السوريّة التي تُبثّ على الفضائيات اللهجة الأردنيّة. التصريح يقول الكثير عن الفهم الرسميّ للثقافة، وتأثير هذه الثقافة.

العراقيون في “المحميّة الرومانيّة”

شهدت الأردنّ موجات نزوح عراقيّين بعد حرب الخليج 1991، وبعد الغزو الأمريكي لبغداد 2003، ولم تتوقف الهجرة بين التاريخين، وربّما ما امتلأت عمّان بمثقفين عرب بهذا الكمّ في تاريخها كما امتلأت بالمثقفين العراقيين. ومن كان يُريد اللقاء بأحدهم، ما كان يتطلّب الأمر منه غير التوجه إلى بعض المقاهي التي صارت تُعرف بهم.

يروي هادي الحسينيّ في كتابه “الحياة في الحامية الرومانيّة: سيرة أخرى للمثقف العراقي” تفاصيل العديد من الحكايات عن المثقفين العراقيين في عمّان. يبدأ الكتاب من حيث استطاع الإفلات من نقطة التفتيش في العراق بخمسة دنانير وعلبة سجائر مع معلومة وحيدة عن المقاهي التي يرتادها المثقفون العراقيون.

عند دخوله إحدى هذه المقاهي، وجد ثلاثة أو أربعة رجال جالسين أمام المدفأة النفطية الكبيرة وهو يعاني البرد القارس، بعد دقائق دخل الشاعر العراقي عبد العظيم فنجان، وبعد لحظات دخل القاص علي السوداني والشاعر محمد تركي النصار.

ويستمر الحسينيّ في رواية تفاصيل حياة المثقفين العراقيين في عمّان، من يقيم بها أو مرّ ومنهم: البياتيّ، الجواهريّ، عبد العظيم فنجان، علي السودانيّ، جان دمو، نصيف الناصريّ. عبّود الجابريّ، عوّاد عليّ، سعدي يوسف.

حسن ناجح، خاص

ومع مرور السنوات ملأ الأكاديمون العراقيون الجامعات الأردنيّة، ازدهرت حركة الفنون على وجه التحديد، وحملت أعمدة ثابتة في الصحف اليوميّة مقالات ثابتة لمثقفين عراقيين، وجرى أخيرًا افتتاح البيت العراقي داخل رابطة الكتاب الأردنيين الذي ضمَّ أصواتًا ثقافية مهمّة أبرزها الشاعران حميد سعيد، وعبد الرازق عبد الواحد. أقيمت ندوات وأمسيات لكبار المثقفين العراقيين، كان بينهم المخرج السينمائيّ محمد شكري جميل (1937) الذي ما زال يُقيم في الأردنّ.

يروي الناقد السينمائيّ الأردنيّ ناجح حسن تفاصيل تلك المرحلة التي كان شاهدًا عليها، يقول لفن: لقد أثرى العراقيون بالنقاشات والأمسيات ومعارض الفنون في عمّان المشهد كلّه، لم يبقَ حقل من الثقافة لم يشارك به العراقيون.

ويُضيف حسن: إنَّ تأثير الهجرة العراقيّة في المشهد الثقافيّ الأردنيّ كان أكبر من هجرة السوريين؛ فالكثير من العراقيين أقاموا في الأردن، بينما الكثير من السوريين هاجروا إلى أوروبا، وكان يمرون بالأردن”.

فلسطين داخلاً خارجًا

عمر زيادة، خاص

تداخلت الساحة الثقافيّة في الأردنّ وفلسطين منذ البدايات، عبور بالاتجاهين، إقامة كتّاب وشعراء فلسطينيين في الأرد

ن، زيارات، ودور نشر، ودور للسينما من قبل “لاجئين”، كأنَّ ما يجري في ضفة النهر الشرقيّة لا يختلف عمّا يجري في ضفته الغربيّة.

يقول الشاعر الفلسطيني عمر زيادة (1987) الذي أصدر مؤخرًا ديوانه الشعري “كلاب عمياء” عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان: “هناك فضاء أوسع وحرفيّة أعلى وإمكانية توزيع ووصول أفضل في الأردن.. ولا أبخس بذلك العمل ومجال النشر والتوزيع في فلسطين مثلاً، لكن الظروف التي تضيّق الخناق على كل شيء لدينا تجعل الأمر مرهقًا وغير مجد تقريبًا”.

وحول النشاطات الثقافية في الأردن وفلسطين، يعتقد زيادة أنَّها “لا تختلف كثيرًا؛ قد تنشط في الأردن في مجالات معينة أكثر من فلسطين نظرًا لعوامل عديدة منها سهولة التنظيم وإمكانية التحكم في التفاصيل كلها بعكس فلسطين التي يرتبط نجاح أي فعالية فيها على الكثير من الاشياء المختلفة. لكن في النهاية نجد أن هناك صدى معتبرًا ومهما لما يدور في فلسطين وحركة دائمة تتمثل في المعارض والمسارح والأمسيات الشعرية والفنية.. ربما لا تكون بضخامة مهرجانات كمهرجان جرش أو فعاليات مسرحية كالتي تحدث في مسرح عمون مثلاً لكن هناك عمل مهم ولا يمكن أن نغفل عنه”.

تبارك الياسين، خاص

خلال سنوات الثورة السوريّة، كُتب الكثير من الأعمال والنصوص الأدبيّة حول ما يجري هناك، من قبل سوريين، تناولت أعمال أخرى قبل فترة الثورة: السجون، المعتقلين، الحريّات. غير أن أعمالاً لكتّاب أردنيين كُتبت عن الثورة السوريّة، الإرهاب، اللاجئين السوريين، بالإضافة إلى مئات النصوص الشعريّة والقصصيّة، ولعلّ أحدث هذه الأعمال “عفن أحمر” التي تصدر قريبًا عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع للروائيّة والفنانة تبارك الياسين. تقول الياسين لـ فنّ: تتناول الرواية مواضيع عدّة؛ تحتوي الآراء المتضاربة حول الثورة السوريّة؛ الإرهاب، والسجون”.

بعيدًا عن العمل الحديث، ترى الياسين أن وجود لاجئين في أيّ مكان من شأنه إثراء التنوع الثقافي، في الأردن ترى الياسين أن الكاتب السوري أكثر جرأة في طرح المواضيع، خاصة فيما يتعلّق بكسر التابو الديني والسياسيّ.