دائما ما تضع الأنظمة الديكتاتورية والفاشية “الأمن القومي” في مواجهة حقوق الإنسان وكأنهما ضدين متقابلين، ودائمًا ما تجرنا إلى معادلة إما هذا أو ذاك. يجب علينا في البداية فهم هذا المصطلح وتفكيكه حتى لا ننجر تلقائيًا إلى تعريف هذه الأنظمة له. الأمن القومي من وجهة نظر هذه الأنظمة يساوي قدرتها على التحكم الكامل في كل شيء وألا يخرج شيءٌ صغر أو كبر عن نطاق سيطرتها، لذلك تجد أن كلمةً مكتوبةً على مواقع التواصل الإجتماعي تلقي بصاحبها في غياهب وأقبية حماة “الأمن القومي”، لا لشيء، إلا لأنها تخرج عن نطاق خطاب الدولة، وتهدد سيطرتها على الوعي العام وتزاحمه الوجود.

“سيسي ماوس” من مظاهرة مناهضة لزيارة السيسي للعاصمة الألمانية برلين

 أما الأمن القومي من وجهة نظرنا -ونظر المؤمنين بدولة المؤسسات والقانون- يبدأ من أمن الإنسان الفرد أو المواطن. فالحق في الأمن هو أحد حقوق الإنسان الأصيلة التي تقع مسؤولية تحقيقها على الدولة أولا كممثل للمجتمع ومنظم للعلاقات داخله، لكننا سنجد الدولة القمعية تضع حق المواطن في الأمن مرة أخرى في مقابل أمن الدولة، كأن الدولة شيء مستقلٌ منعزلٌ متحققٌ بذاته، وكأنهما ضدان لا يجتمعان أو يتوافقان، وما ينطبق على حق الأمن ينسحب على بقية الحقوق، كالحق في التعبير عن الرأي، أو الحق في المحاكمة العادلة، أو حتى الحقوق الاجتماعية كالحق في السكن والمأكل والرعاية الصحية، فنجد الدولة القمعية في مواجهة المطالبين بأي من هذه الحقوق بدعوى: أولوية “الأمن القومي”، كأن حصول المواطن -الذي يجب أن يكون أولوية الدولة نظريًا كحجر زاوية المجتمع ككل- يتعارض أو يهدد الأمن القومي واستقرار الدولة، لكننا إن استبدلنا مصطلح أمن النظام الحاكم بالأمن القومي سيستقيم الأمر منطقيا ويسهل فهمه وبالتالي يكون أمن المواطن في مقابل أمن النظام الحاكم و أمن دائرة مصالحه وحماته.

من أقدم الاستراتيجيات التي استخدمتها الأنظمة الفاشية والقمعية على مر التاريخ هي استراتيجية التهديد والتخويف

من أقدم الاستراتيجيات التي استخدمتها الأنظمة الفاشية والقمعية على مر التاريخ هي استراتيجية التهديد والتخويف من عدو ما يهدد الأمن القومي لتبرر ممارستها القمعية، هذا ما يفعله اليمين المتطرف الآن في كل العالم، وإذا نظرنا إلى ترامب على سبيل المثال سنجده يستخدم نفس اللغة والطرح. وإذا قسمنا العالم إلى يمين ويسار ووسط فأين يمكن أن تضع نظامًا عسكريًا يسوّق لفكرة القومية والوطن كذريعة لكل جرائمه ككل من سبقه أو عاصره من أنظمة فاشية؟

 في مصر، كان هناك دائما خطر يهدد الأمن القومي، خطر خارجي يتثمل في اسرائيل “العدو التاريخي”، وداخلي يتمثل في الإسلامين. وبعد أن أصبحت اسرائيل حليفا استراتيجيا، كان لابد من وجود خطر خارجي آخر، ولا يوجد أفضل من الإرهاب ليلعب هذا الدور، فيصبح “البعبع” الداخلي والخارجي، والمبرر لكل الممارسات التي تساعد النظام في فرض سيطرته التامة وتحكمه الكامل في كل شيء، فيصل به الأمر للتحكم في الميول الجنسية ونشاطات غرف النوم المغلقة والنشاطات الكيميائية داخل عقول مواطنيه وليس فقط ألسنتهم.

السيسي يقوم بدور الحارس الذي لا يمكن الاستغناء عنه

المثير للاهتمام هنا رد السيسي الأخير على السؤال المتعلق بحقوق الإنسان وأحكام الإعدام الأخيرة التي كان لها صدى عال، تحدث السيسي عن خصوصية المنطقة وعن نسبية حقوق الإنسان في حادثة أراها مهمة ولها دلائل كثيرة، أولها اللغة المغايرة والمقاربة الجديدة التي ربما تشير إلى تزايد ثقته في تموضعه الفوقي في معادلة علاقته بأوروبا، الذي يمكن فهمه –ربما- في سياق اعتماد أوروبا شبه التام عليه في قضية الهجرة غير النظامية القادمة من المتوسط، وقيامه بدور الحارس الذي لا يمكن الاستغناء عنه على بوابتهم الجنوبية. قد يمكن إضافة ما يعرف بصفقة القرن لهذه الرؤية أيضا ومعرفته اليقينة أنها لن تتم دونه.

السيسي يدافع عن عقوبة الإعدام

“الإعدام جزء من ثقافة وقيم المنطقة”الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يدافع عن تطبيق عقوبة الإعدام في القمة العربية الأوروبية.حديثه يأتي بعد انتقادات واسعة إثر إعدام السلطات المصرية 9 شبان في قضية اغتيال النائب العام

Posted by ‎عربي +AJ‎ on Tuesday, February 26, 2019

لكم إنسانيتكم ولنا إنسانيتنا

قال السيسي بما معناه: لكم إنسانيتكم ولنا إنسانيتنا، تقبّلونا كما نتقبلكم، معارضًا أحد أهم مبادئ حقوق الإنسان، ألا وهو العالمية، وأن حقوق الإنسان واحدة في كل مكان في العالم، أيا كان مكانك أو عرقك أو جنسك، والذي تراه واضحًا لا لبس فيه ومؤكدا عليه بأكثر من طريقة وصيغة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بل وفي ديباجة الإعلان أيضا.

لست هنا في معرض الحديث عن هذا الإعلان، أو عن دور الأمم المتحدة، ولا حتى عن فلسفة حقوق الإنسان المبنية على الليبرالية الرأسمالية. ولكنني أضع الأمور في نصابها حيث يعتبر السيسي نفسه جزءًا من هذا النظام العالمي، وملتزما بقواعده، وكان حريصا كذلك على إظهار التزامه به وبقواعده وشكلياته ورمزياته وقيمه حتى لحظة تفوهه بهذه الكلمات بهذه اللهجة وبهذا الصوت وبهذا التعبير اللغوي البدني.

نراه فرضًا لشروطه وإعلانًا عن تمرده على قواعد النظام العالمي

إذا طالعنا لغة السيسي السابقة لهذا الخطاب الجديد، سنلاحظ التغيير الكبير الذي نتحدث عنه، فسابقًا كان يستخدم المقاربة التي تتناول حقوق الإنسان كأنها هدف من أهدافه التي يسعى لتحقيقها، ويرى أوروبا بقيمها مثالاً يتمنى الوصول إليه يوما ما، إلا أن التحديات التي تتعرض لها البلاد هي المانع والعقبة من تحقيق ذلك، وأن الظروف غير مواتية، وأن الأولوية للأمن والاستقرار في اللحظة الراهنة كاستثناء.

وما قاله مؤخرًا، يمكن لنا أن نراه فرضًا لشروطه وإعلانًا عن تمرده على قواعد النظام العالمي الراسخة وإحساسه بأنه في موضع القوة.

والسؤال الذي يطرح نفسه حاليا: كيف سيكون رد فعل الأنظمة الأوروبية؟ وماذا سيكون صدى هذه التصريحات؟ فإذا كانت سردية “الحرب على الإرهاب” و”أهمية النظام المصري في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة” و”صعوبة الحفاظ على مستوى مقبول من احترام حقوق الإنسان في مثل هذه الظروف الاستثنائية” مبررًا لدعم ديكتاتورية العسكر في مصر من قبل الأنظمة الأوروبية، فكيف سيكون الحال مع هذا الطرح الجديد الذي قدمه السيسي؟ هذا الرجل يقول في حضور قادة الأنظمة الأوربية إن حقوق الإنسان التي اتفقت عليها الأمم المتحدة منذ 1948 لا تناسبه ولا تناسب ثقافته وإنه لا يقبل أن يعلمه أحد عن الإنسانية لأنه لديه مفهوم آخر عنها.