حين أتى عمي عبد الله وزوجته عائشة لبيتنا، جلبا معهما بريقًا إلى شقتنا في المدينة الألمانية الصغيرة. أتيا بالكثير من الحقائب، نصفها مكتظ بالمأكولات العربية والهدايا. زيارتهما كانت دائمًا حدثًا مهمًّا بالنسبة إليّ. منذ صغري وزوجة عمي امرأة تحظى بإعجابي على كل المستويات. كانت كبيرة ودائمة الحضور، شعرها أسود مصفف بإتقانٍ مثل أم كلثوم، كانت ترتدي بناطيل واسعة وبلوزات أنيقة مع أظافر مطلية بالأحمر الفاقع. لن يسرها أن تسمع اليوم، أنّني بدأت التدخين بسببها فقط، ولكنّها الحقيقة. بالنسبة إليّ، لم يكن هناك منظر أكثر أناقة وروعة من عائشة وهي تمسك بسيجارة رفيعة وطويلة ذات عقب أبيض بيدها التي طليت أظافرها وتدخنها في مطبخنا. هكذا أردت أن أكون عندما أكبر.

الكاتبة رشا خياط، بعدسة: عمر تيمول
لم تقم عائشة بوظيفة في حياتها تتكسب منها المال، بل ربّت ستة أطفال، واليوم أصبح لديها جيش من الأحفاد وأبناء الأحفاد. لم تعد تدخن، وتخلت عن طلاء الأظافر بعد أن شارفت عامها الثمانين. كلمة مثل “النسوية” بالتأكيد بعيدة كل البعد عنها، إن لم تكن تجهل المصطلح. ومن المنظور الخارجي لا تستطيع إحدى نسويات هذا العالم أن تعتبر عائشة رفيقة لها في النسوية.
رغم ذلك، كانت عائشة دائما رمزًا للقوة بالنسبة إلي. رونقها، شخصيتها، قدرتها على تنفيذ الأمور، تصميمها الذي تدير به عائلتها حتى اليوم، كل ذلك أثار إعجابي طيلة الوقت. هي ربة منزل كما يقول الكتاب. قوتها كانت مقصورة بالطبع على المساحة الخاصة، لكن عندما يدقق المرء النظر، فهناك الكثير مما يمكن تعلمه منها، سواء كان المرء ربة منزل أم لا.
نسوية غير فعالة
في مقالها، تتساءل ولاء خرمنده إن كانت “النسوية” مفهوما غربيًا، وتوضح النضال القائم حول حقوق المرأة في العالم العربي. عائشة لم تناضل أبدًا من أجل حقوق المرأة بشكل عام، فهي لا تشارك في النقاشات السياسية، بل دائما ما تركت ذلك لعمي. هي لا تتابع الأخبار بشكل منتظم ولا النقاشات الراهنة. ببساطة، هي غير مسيّسة، ربما لذلك علاقة بجيلها، فلم أسألها عن ذلك أبدًا. ومع ذلك، فهي تجد أن وجود نساء يناضلن من أجل حقوقها، حتى في السعودية، أمر رائع. وهكذا تشعر أيضًا تجاه ما نفعله نحن “كبناتها”. أنا؛ بكتاباتي، إحدى زوجات أبنائها كانت جزءًا من حملة „Women 2 Drive“، وأخرى تدير منظمة للأمهات دون الأزواج في جدة. ولا يمكن لأحد أن يجرؤ على اقتراح ابتعادها عن هذه النشاطات، بل على العكس، فهي تزور جميع فعاليات “بناتها” وتساندهن عن بعد أيضًا. قبل كل شيء، فهي تقف في صف بناتها، وأزواج أبنائها، وحفيداتها، وابنة شقيق زوجها (أي أنا) “المتألمنة” في كل مواقف الحياة. وقفت وتقف كالحجر خلفنا وتقوّي لنا ظهورنا. ربما يمكن للمرء أن يسميها “نسوية غير فعالة”.
يبدو لي الخطاب النسوي في أوقات كثيرة نخبويًا، بعيدًا عن الواقع، وأحيانًا تبشيريًا.
أنا أيضًا قلما أشارك في نقاشات نسوية عامة، ليس لأن ذلك لا يهمني، بل لأنني لا أملك الأدوات النظرية لذلك، فأنا لست باحثة في دراسات الجندر، ولا ناشطة، بل أتمركز في الأدب وأؤمن بالفعالية العميقة للفن والقصص، ورغم ذلك، لا أستطيع أن أسمي نفسي نسوية بثقة، في المقام الأول لأنني تربيت من قبل نساء يشبهن قوة الطبيعة – أمي وجدتي وزوجة عمي العربية. لا أستطيع أن أتصور النساء إلّا حازمات، فاعلات، حرّات في فكرهن. ربما نميت بشكل تلقائي هكذا، بناء على وعي ونظام قيم متوجه نحو نماذج القدوة تلك، وربما لذلك يبدو لي الخطاب النسوي في أوقات كثيرة نخبويًا، بعيدًا عن الواقع، وأحيانًا تبشيريًا.
نماذج القدوة
ألا يجب على النطاق النسوي أن يتوسع بشكل عملي وشخصي ليتضمن نماذج القدوة؟ في كتابها “Bad Feminist” تتطرح الكاتبة الأمريكية روكسانا غاي الأطروحة نفسها، تستخدم سيرتها الشخصية كمثال لتوضيح ما يجعلها “نسوية سيئة” ألّا تقوم بالفعل كناشطة، وألّا تتمركز على أسس السياسة والنظريات الجندرية، بل ببساطة (نعم، ببساطة) أن تأخذ نماذج القدوة هذه كتوجه لحياتها. تقوم غاي بمركزة نفسها خارج الإطار النظري والأكاديمي، وترى أن وظيفتها تكمن في استغلال مركزها كقدوة للآخرين (ككاتبة وأستاذة) لإعطاء أمثلة حية للنسوية تستند على التاريخ الشخصي للمرء.
بالنسبة لغاي، فالسؤال يتمحور حول قدرة النسوية الغربية البيضاء على أن تحتويها (كإمرأة غير بيضاء) كجزء منها. تكتب قائلة إنها قلما تجد نفسها جزءًا من الحوار. يبدو لي أن لهذه الأفكار منطقًا مشابهًا لما شرحته ولاء خرمنده، وربما عند هذه النقطة تحديدًا يتشكل شكل من أشكال النسوية التي تستطيع الكثير من النساء (سواء كن من العالم العربي أم لا) أن يتلاقين ويتفاعلن معها –نسوية المساحة الخاصة التي تستقل عن العالم النظري، نسوية لا تحتمل فقط التناقضات، بل تتعامل معها كمسلمات. نسوية تتمركز على فكرة أن النساء تربين من قبل نماذج قوية وحاضرة، ولذلك فهن في وضع يتيح لهن أن يقدن حيوات مستقلة ومكتفية ذاتيًا. وبعد ذلك –وإن أمكن– قد يصبحن نسويات في المجال العام.
نماذج حقيقية
بالطبع يمكن للمرء أن يجد مشاكل في قصتي، يستطيع أن يقول إن نموذج عائشة لا يتكرر في كل العائلات، وإنها كانت محظوظة في زوجها وعائلتها، ووضعها الاجتماعي. هذا كله لا شك فيه. لكن هذا لا يقلل من شأنها بالنسبة إلي، ولا يجعلها قدوةً أصغر من سيرينا ويليامز أو ماري كوري. الميزة التي تمتلكها نماذج القدوة الخاصة تلك –وهذا ما تقوله روكسانا غاي أيضًا– هي الحقيقية. المرء يعرف شكل القدوة دون مكياج، شاهدها تلوّث مفرش طاولة الطعام، ويعرف مواعيد قيلولتها. نماذج القدوة هنّ بشر لديهنّ عيوب وتناقضات ومميزات، ولا يتمتّعن بالكمال. وبتأثيرهن ينمّين جيلاً جديدًا يبني بيتًا على أسس مميزات الأم والجدة والعمة إلخ.
ولهذا فأنا أرحب بهن كنماذج قدوة لي وممتنة لوجودهن.
ترجمة: إبراهيم محفوظ
*تنشر مجلّة فن سلسلة النقاشات هذه بدعم من معهد غوندا فيرنر للنسوية والديمقراطية الجندرية.