بينما صارت سوريا ساحة لتجربة الأسلحة الجديدة والمتطورة التي أنتجتها قريحة مصانع الأسلحة، صار الحدث مجرد رهان حول تفوّق الأسلحة الروسية التي تمت تجربتها للمرة الأولى منذ خروجها بأوامر من الكريملن دعمًا لديكتاتور دموي هو بشار الأسد، في مواجهة أحدث ما أطلقته مصانع الأسلحة الأميركية التي يشارك في رأسمالها ذلك المجنون القابع في البيت الأبيض دونالد ترامب، والذي لا يهمه سوى أن يُعلن تفوقه على القيصر الروسي فلاديمير بوتين، قيصر القرن الحادي والعشرين الذي قامت الدعاية الروسية بتصويره وكأنه أشبه بالسوبر مان، يقبع أطفال سوريا ليلاً ونهارًا تحت وابل القنابل العنقودية والصواريخ التي لا يعلم أحدهم إن كانت من واحدة من طائرات الميج أم مقاتلة من طراز الشبح. كلاهما يخطف الأرواح، بينما لا يزال العالم يتذكر أشهر جملة نطق بها طفل سوري قبل أن يعود إلى خالقها “سأخبر الله بكل شي”.

هناك الكثير مما سيرويه أطفال سوريا، منهم من لا يزال يتذكر تلك القذيفة التي أطاحت به بعيدًا عن أمّه، ثم عاد ليجدها قد فارقت الحياة، آخر، لم تعد عيناه ترى بعد أن تناثرت واحدة من العنقوديات في عينه ليصبح ذلك مشهده الأخير، وثالثة، لا تزال تتذكر صرخة أبيها الملتاعة قبل أن يتمزق أمامها إلى أشلاء.

 في خضم الحرب في سوريا ومحاولات المواطنين النجاة من مصير حتمي بالموت، يتقدم المخرج السوري فراس فياض في طرح أوجاع أطفال يموتون تحت أنقاض البنايات، وآباء يهرعون وراء الحصول على أبسط المساعدات الإنسانية من الأدوية والطعام، وسط وطن ممزق يُعاني ويلات الحرب التي يعرف عنها العالم أجمع، والتي تخلّى عنها أيضًا وتجاهلها، خاصة الدول العربية التي جاءت الإشارة إليها على لسان أحد أبطال الفيلم، لاعنًا خذلانًا قد تسببوا فيه للسوريين، في الوقت الذي اكتفى العالم بتجربة أسلحته المتقدمة، وإرسال بضعة مبعوثين لا يفعلون سوى الاتفاق على مؤتمر تلو الآخر، بينما ينزف الدم السوري طيلة الوقت ويكتفي النازفون بلعن “أخي العاهرة” الديكتاتور الذي لا يستطيعون الخلاص منه.

يركّز الفيلم الوثائقي “آخر الرجال في حلب”، الحاصل على الجائزة الكبرى في فئة الأفلام الوثائقية العالمية بمهرجان صندانس القائم في ولاية أوتاوا بالولايات المتحدة الأميركية، والذي يعد أكبر مهرجان سينمائي خاص في الولايات المتحدة، على اللمحة الإنسانية أكثر من تناول أحداث الحرب نفسها، إذ ركز فيّاض على إبراز المأساة السورية من خلال الشخصيتين الرئيسيتين خالد ومحمود اللذين يعملان لصالح الدفاع المدني السوري، أو كما يطلق عليها “منظمة الخوذات البيض” التي تعمل من أجل إنقاذ المواطنين وانتشالهم من تحت أنقاض المباني المنهارة، حيث أبرز فياض الدور المهم لعمل “ذوي الخوذات البيض”، كما ظهرت المأساة السورية من خلال مواقف حياتهما الشخصية وأحلامهما والطريقة التي يتعاملان بها مع الأطفال بوجه خاص.

خالد، ذو الوجه الباسم والمحبوب من زملائه وجيرانه تُعاني ابنته من نقص حاد في الفيتامينات، وجراء ذلك تظهر البقع البيضاء على كف يدها، نتعرف على معلومة مهمة تفيد بأن صيدليات مدينة حلب تخلو من الأدوية، إذ طاف خالد بابنته في أولى مشاهد الفيلم بين سبعة صيدليات دون أمل في الحصول على أحد الأدوية لدعم جسدها الصغير الذي ينهار من تأثير الأنيميا وسوء التغذية؛ يتمنى خالد السفر إلى تركيا فقط لعلاج ابنته، فهو -كما يبدو في الفيلم- كأنه سمكة لا تستطيع الحياة خارج المياه التي اعتادتها؛ في حين يبدو محمود حاملاً مسؤولية الأطفال الذين يقوم بانتشالهم من تحت الأنقاض، حتى أنه يستمر في متابعة حياتهم والاطمئنان على حالاتهم النفسية بعد عملية الإنقاذ.

للأطفال دورٌ مهمٌ في رؤية المخرج فراس فياض، من خلال رصد مُعاناتهم وحياتهم اليومية عن طريق إبراز ضحكاتهم، وفرحة ترتسم على قسمات وجوههم، رغم رائحة الموت التي تفوح من كل جوانب المدينة، وذلك في أثناء إقبالهم على اللعب في الساحة الواسعة، التي ما تلبث أن تتحول إلى مكان بغيض يهربون منه، محاولين إيجاد مكان للاختباء، في وقت يتناهى فيه إلى مسامعهم هدير المروحيات الصاخب. تجري ابنة خالد إلى أحضانه باعتباره بطلها القومي الذي تُعيد تشغيل مقاطع الفيديو المسجلة له في أثناء قيامه بعمليات إنقاذ الأطفال.

ينجح فياض في تسليط الضوء على الجوانب الإيجابية والأفعال المتفائلة لأبطال الفيلم من ممارستهم للعب كرة القدم، في وقت لا يحتمل الضحكات الصادرة منهم في أثناء اللعب، تلك الضحكات التي تدفع أحد المواطنين إلى الإقدام على منعهم من استكمال المباراة ومزّق الكرة بالسكين اعتراضًا منه على قضائهم وقتًا للتسلية بينما هناك آلاف من القتلى في أنحاء المدينة.

قد يتوقع الجمهور أن يتابع فيلمًا عن الحرب والمأساة في سورية بمشاهد قاسية ولكن رؤية فياض كانت بالاتساع الكافي لتُبرز صورة شبه كاملة للوضع في حلب بكل مايتضمنه، بينما استطاع أن يُبرز المشاعر الإنسانية وملامح المُعاناة على الوجوه من خلال اللقطات القريبة التي نشعر فيها أن تلك الوجوه اقتربت من قلوبنا وليس من الكاميرا فقط؛ يأتي ذلك بالتعاون مع موسيقا كريستين فاندال المُعبّرة عما يجري في المقاطع المُتتالية من الفيلم، والتي لا تبدو مُرتّبة زمنيًا، مما يوكد تكرار حدوثها، وأنها صارت عادة يومية لأبطال الفيلم وسكان المدينة، فقد بدت الموسيقا مُرّتبة ومتوقعة تقسيماتها الحزينة تارة، والانفعالية تارة أخرى.

الفيلم، هو أول الأفلام السورية التي يتم ترشيحها للقائمة القصيرة لجائزة الأوسكار، ربما استحق ذلك لأنه لم يُرّكز على أعداد القتلى، والذين فاقوا ما يزيد عن نصف مليون قتيل خلال السنوات الست الماضية، بقدر ما هو يُعطي صورة إنسانية عن الحياة في مدينة اعتادت الموت والاستيقاظ على أصوات القذائف، لكن من فقدوا ذويهم لا يزالون يحاولون الحياة ويتمسكون بهذه الأرض رافضين الهروب رغم كل الخسائر، بينما يحاول كل من امتلك سلاح -على اختلاف جنسياتهم- أن يسلبوها.