أربع رجال مُسنين يستقلونَ حافلةً صغيرةً صَدِئةً، في رحلة عبر الفيافي السودانية المهجورة، وبالرغم من قِدم الحافلة، إلّا أنّ اهتمامهم بها يبدو جليًا. تتوقف الحافلة في مكان ما، وبطريقة مُدربة يبدؤون برصّ الكراسي على شكل صُفوف، يثَبتون شاشة السينما على الجدار، أحدهم يضغط على الزر إيذانًا ببدء العرض. شارلي شابلن يحارب ضد حيل العالم الحديث، عندها يضحك الجمهور. عقب نهاية الفيلم، يبدأ الرجال الأربعة في فصلِ المُعدات من جديد وإعادتها إلى مكانها. بعد ذلك يسافرون عائدين إلى الأستوديو الخاص بهم، هناك داخل الأستوديو المظلم، يأخذ الفيلم منحنىً مهمًا ورائعًا، حيث يبدأ المخرج في الوقت الذي بانت على وجهه علامات الضحك بإعطاء التوجيهات للممثلين. الكاميرا المُتخيلة تبدأ بالتصوير. هنا تظهر غلوري سفانسون ذات الجمال الخلاب، تلفّ حولها وشاحًا، وتُحدث نفسها بطريقة تَخيلية معلنةً جاهزيّتها للعرض المهم. بداية رائعة للفيلم تتبعها أطرافُ أحاديث بين المخرجين الأربعة ومجموعة من نشطاء مجموعة الفيلم السودانية تدور حول حبهم اللامحدود للسينما.

السودان، كبلد صانع للأفلام، لم يلقَ حتى الآن إلا نصيبًا ضئيلاً من الشُهرة العالمية. بالرغم من ذلك، تضمنت قائمة أفلام مهرجان برلين لهذا العام عدة أفلام سودانية. بجانب فيلم “حديث مع الأشجار” لمخرجه صهيب قسم الباري، نجد “أوفسايد” الخرطوم لمخرجته مروى الزين. على هامش المهرجان وفي منتدى الجمهور تم أيضًا عرض أفلام قصيرة تحت رعاية مؤسسة أرسينال للأفلام، لممثلي فلم الحديث مع الأشجار، إبراهيم حداد ومنار الحلو وسليمان النور والطيب مهدي. الأفلام القصيرة المذكورة أضيفت عليها بعض التعديلات في السنوات الماضية، وعُرِضت بشكلها الجديد خلال المهرجان.

أربعتهم، وكغالبية مخرجي جيلهم في العالم العربي في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، درسوا في القاهرة وموسكو وبوتسدام. عندما عادوا إلى السودان بدؤوا بإنشاء مؤسسة مستقلة غير حكومية لصناعة الأفلام، ونجحوا في العام 1989، أي قبل وقت قصير من استيلاء الإسلاميين على السلطة، من إنشاء مجموعة الفلم السودانية. الانقلاب العسكري كان بمثابة بداية النهاية لعهد السينما الذهبي في السودان، إذ أن الانقلابيين عادوا وسيطروا على مُجملِ الحياة الثقافية في السودان، بما فيها السينما. لا يجب أن نكون خبراء في الشأن السياسي السوداني كي نفهم هذا التحول الكبير في السودان، بل يكفي أن نشاهد الفلم، ونتأمل نقاشات هؤلاء الرجال الأربعة المأخوذين بولع السينما ونتدبر أحاديثهم عن السياسية خلال الفيلم، عندها يمكننا فهم هذا التحول الكبير في تاريخ السودان.

بطريقة رائعة وفكاهية، تجول الكاميرا مع الممثلين، يحكون عن تاريخهم الحافل، وتُلقي الضوء على الطاقة الهائلة التي تعتملُ في دواخلهم، وحبهم للسينما رغم الظروف الصعبة. تُرافقهم أيضًا إلى أرشيفهم الخاص ومسرحهم المُتحرك، تُصور العروض التي قدموها في القرى البعيدة عن الخرطوم.  يحكون عن الحلم الذي لطالما راودهم، وهو إعادة إنشاء سينما كي تكون بادرة لأخريات ولكي يواصلوا أعمالهم الفنية.

ها هم يبدؤون بتعمير مبنى قديم مُترهل في مدينة الحلفايا شمال الخرطوم وإنشاء سينما تحت الهواء الطلق مكانه. بدؤوا فعليًا في مشروعهم، عندها اعترض مالك المبنى على الأمر. اعتراضه عَنى لهم العودة إلى نقطة الصفر والتفكير في إيجاد بديل أخر.

لا يرى المُشاهد في المُمثلين أبطالاً خارقين، وفي الوقت ذاته، لم تخلق منهم كاميرا صهيب شخصيات مأساوية.

بالرغم من كل الصعوبات التي واجهتهم، لم يستسلم الرواد السينمائيون الأربعة للإحباط، وبفضل كاميرا المخرج صهيب الحصيفة، لا يرى المُشاهد في المُمثلين أبطالاً خارقين، وفي الوقت ذاته، لم تخلق منهم كاميرا صهيب شخصيات مأساوية. في محطات مختلفة من الفيلم، نجد أن المخرج يترك مجالاً من الوقت لأربعتهم كي يتحدثوا عن حصيلة تجاربهم السياسية والثقافية الجماعية التي دامت لما يزيد على خمس وأربعين عامًا.

خلال هذه المشاهد المحفوفة بالمزاح والسخرية، يشعر المشاهد بصداقتهم الدافئة غير العادية. صداقتهم لم تؤثر فيها التقلبات السياسية التي مر بها السودان، البلد الذي يترنح منذ الاستقلال من حكم ديكتاتوري إلى حكم ديمقراطي. عاشوا معًا في المنفى، تجاوروا في سجون الأنظمة الديكتاتورية. في أحد مشاهد الفيلم، وبطريقة مازحة، أخذوا يقرؤون لبعضهم البعض خطاباتٍ تبادلوها في الماضي ويتحدثون عن مشاريعهم المستقبلية. إبراهيم شداد، الذي يبدو أنه أكثر انفتاحًا وحيوية، يلعب دورًا مركزيًا في الفيلم. حيويته الفائقة تُنسيه دوافع الفلم، يبدأ في التدرب على الصوت لفيلمه الجديد وفي الوقت ذاته، يعمل على تصميم دراسة جدوى لتطوير فيلمه المسرحي الجديد.

أخيرًا تلوح لهم فرصة لإنشاء سينما جديدة في مدينة أمدرمان في العاصمة الخرطوم، المكان الذي ولدَ فيه المخرج شهاب عضوًا في جمعية الفلم السودانية في العام 1979 وقضى فيه سنوات. بحذر فائق بدؤوا في كسب ثقة وود الجيران، قبل البدء بوضع البنية التحتية وترميم المكان الذي يفترض أن تقومَ عليه السينما. الصعوبات التي تواجه السينما في السودان هي إحدى مواضيع الفيلم الأساسية. الكاميرات التي تجول هنا وهناك، وأجهزة الصوت كانت مثار شك بالنسبة إلى الجيران. هذا الأمر تعرض له المخرج صهيب أيضًا في إحدى النقاشات الجانبية خلال الفيلم. الصعوبات لم تكن اجتماعية فقط، بل من جانب الحكومة أيضًا. بناء سينما يتطلب تصريحًا رسميًا من الجهات المسؤولة. بالرغم من أن الضغوطات الأمنية والسياسية على مجال السينما خُففت مع بداية الألفية الجديدة مقارنة بالعقود السابقة، إلا أن تسجيل السينما لدى الجهات المعنية صاحبته صعوبات بيروقراطية وأمنية كثيرة. تلك الصعوبات غير المنطقية تتحدث عنها الزميلة هنّا.

فيلم “الحديث عن الأشجار” لا يحكي فقط عن رحلة البحث الطويلة عن مكان لإنشاء سينما ثابتة، بل نجح بطريقة ضمنية في سرد تاريخ السودان، الذي اندلعت مؤخرًا فيه مظاهرات جديدة وما زالت مستمرة حتى اليوم. إذا تأملنا عنوان الفيلم “الحديث مع الأشجار” المستلهم من بيرتولد بريشت يمكننا القول إن الفيلم ليس منتجًا سينمائيًا فقط، بل أيقونة فنيّة تتعدى عالم السينما، وتصطحب معه مواضيع سياسية واجتماعية أخرى مسكوت عنها. فيلم الحديث مع الأشجار الذي تم إنتاجه في فرنسا بعد عناء طويل، تلقى دعمًا من مؤسسات مختلفة مثل مؤسسة الدوحة للأفلام، ومؤسسة دعم السينما العالمية، سي إن سي، وإدفا بيرثا فوند.

وبعد صعوبات عديدة، وجد الفيلم طريقه إلى مهرجان السينما في برلين حيث حصل على جائزتين. الأولى “غلاس هوتا” للأفلام الوثائقية، والثانية جائزة جمهور البانوراما.

ترجمة: مهدي أحمد