على الرغم من أن المؤلف والمخرج بول توماس أندرسون لم يدرس أيًا من فنون صناعة السينما دراسة أكاديمية، فإنه استطاع في الثانية عشرة من عمره أن يتعلم فن التصوير باستخدام كاميرا والده، وما لبث أن صنع أول أفلامه القصيرة، ومن ثم كتب في أثناء فترة المراهقة ولم يتوقف إبداعه من وقتها، إذ بدأ مشواره الفني الجدي بالعمل كمساعد منتج حتى أصدر أول فيلم قصير له بعنوان “سجائر وقهوة” عام 1993.
بداية مبشرة لطفل موهوب حصل على أرفع الجوائز السينمائية عن أعماله، منها جائزة الدب الفضي لأفضل مخرج من مهرجان برلين السينمائى الدولي عن فيلمه “ستكون هناك دماء”، كما نال جائزة الدب الذهبي كأفضل مخرج عن فيلم “ماغنوليا” من المهرجان ذاته، وجائزة مهرجان كان كأفضل مخرج عن فيلم “Punch-Drunk Love” عام 2002، وكذلك رشح للعديد من الجوائز.
إذن نحن بصدد الحديث عن نابغة يقوم بالتأليف والإخراج والإنتاج أيضًا، حيث يظهر ذلك جليًا في أحدث أفلام أندرسون الذي حمل عنوان “الخيوط الوهمية” phantom thread ، المرشح لتسع جوائز أوسكار والذي يعد إحدى علامات نضجه وتفوقه السينمائي المبهر، إذ يبدأ الفيلم بمقطوعات من موسيقا البريطاني جوني جريينوود مصاحبة للقطة متوسطة لامرأة ذات جمال هادئ وبعيدًا عن الصخب الذي تتميز به الشقراوات، تجلس أمام لهيب مدفأة حيث تكتب الجملة الافتتاحية للفيلم “لقد حول رينولدز أحلامي إلى حقيقة”.
ربما يعتقد المشاهدون أن ألما/ فيكي كريبس سعيدة بتحقق أحلامها على يد رينولدز، ولكن مع متابعة الأحداث التالية للفيلم سوف يتعرفون إلى مأساة عشق من الدرجة الأولى، يدور الفيلم في خمسينيات القرن الماضي، في لندن، بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن ساد الهدوء والاستقرار في أوروبا، حيث يشتهر صانع ملابس يدعى رينولدز وودكوك/ دانيال داي لويس وشقيقته سيريل/ ليسيلي مانفيل التي تساعده في العمل نفسه وتشاطره تفاصيل حياته بعد أن فقد الأخوان والديهما، تقتحم ألما حياة مصمم الأزياء العالمي دون قصد أو نية مسبقة، فيلتقيان في مطعم بسيط تعمل فيه ألما كنادلة، وتقدم وجبة الإفطار إلى رينولدز الذي يدعوها إلى العشاء في اليوم نفسه، ومن هذه الليلة تبدأ قصة حب غير مسبوقة بين رجل من أحد أفراد عائلة كوتيور الشهيرة بتصميم وصناعة أزياء وملابس العائلات الملكية في أنحاء أوروبا، ذلك الروتيني الذي يحرص على مواعيده بمنتهى الحدة، وبين امرأة شابة جميلة تتطلع لحياة صاخبة ومختلفة، لن تستطيع ألما تغيير نظام حياة الفنان ومصمم الأزياء، لتجد صعوبة في ابتلاع قطعة الخبز المحمص لما يسببه ذلك الصوت من ألم في أذن رينولدز، تتطور الأحداث بين إيجاب ورفض حتى تحصل ألما على وقت نادر والذي يعد من لحظات صفاء نفس رينولدز، فيروي لها تاريخ عائلته وكيف خاط فستان زفاف والدته الثاني الذي دفنها به، وكيف أثر موتها سلبًا عليه، بعد دقائق يطلب رينولدز من ألما أن تقف ثابتة مثل المانيكان الذي يصنع عليه أثوابه، ومن ثم صنع لها أجمل الثياب التي ارتدت. تقيم ألما في منزل عائلة وودكوك حيث تعمل عارضة أزياء لدار وودكوك الشهيرة، وبين عيش ألما في منزل رينولدز وتبادل الكلمات القاسية فيما بينهما يتجلى الارتباط القوي بينهما الذي يدل على قصة حب عميقة، تلك التي تعلنها ألما ويحجبها رينولدز في صدره.
لم يحدد ذلك الاختلاف حرب الإرادة بين الشخصين اللذين لم يخططا لتلك العلاقة منذ البدء وصولاً إلى الاعتراف بالحب الذي كان من المستحيل أن يعترف به رينولدز، يتضح ذلك بشكل كبير من خلال سيناريو أندرسون السلس والمحكم الذي يتميز بالحوار الطويل وغير المرهق أو الممل، يلقي أندرسون الضوء داخل النفس البشرية من حيث اختلاف طباع شخوصه، فمن ألما التي تفضل الاستقرار والاعتراف بالحب، ورينولدز الرافض لتغيير نظام حياته، إلى سيريل شقيقته العزباء والمتقدمة في العمر، نجح في صنع التوازن في علاقة ثلاثي الأبطال من حيث الأداء والتعبير الحركي والحسي.
عودة إلى سيناريو أندرسون، سوف نلاحظ أنه ليس هناك تحوّل ولو طفيف في سلوك الشخصيات سوى من خلال لحظات الذروة والقرار، وأيا منهما -ألما ورينولدز- من يقرر أن يتغير من أجل الآخر، إلا أن خطة كتابة السيناريو المحكمة والتدريجية التطور والتصاعد تنبئ بالتناول من خلال بعض المشاهد المؤثرة، مثل مشهد حفل رأس السنة الذي رغبت ألما في حضوره، على عكس رينولدز الذي بدا متوترًا وحائرًا بين قبول الدعوة وبين المكوث في المنزل لمباشرة أعماله ولكن على الرغم من ذلك يذهب إليها في قاعة الاحتفال ليجذبها بين ذراعيه، ومن ثم بذهبان إلى منزلهما.
استطاع بول أندرسون دون مشاهد جنسية أو الفاظ فجة؛ توصيل إحساس اللهفة والشغف الذي يسكن قلبي العاشقين رينولدز وألما، ولكنه عبّر عنه من خلال مرض نفسي ليس بالخطر، إنما يقع في نطاق محدد من رغبة ألما في أن يخضع لها رينولدز حتى تقوم بصنع أكلات شهية بنبات عيش الغراب السام الذي من شأنه أن يجعل من رينولدز مريضًا ومحمومًا ويحتاج لوجود ألما إلى جواره ولا تفارقه، وهو ما يعطيها إحساسًا بالسيادة عليه وعدم قدرته على الاستغناء عنها، حتى هذا الحد نستطيع قبول فكرة ألما الشريرة؛ ولكن ماذا لو كان رينولدز يعلم بخططها بل ويتقبلها؟!
حصل دانيال دي لويس علي جائزة جولدن جلوب لأفضل ممثل عن دوره في فيلم There will be blood “ستكون هناك دماء” للمخرج نفسه؛ بالإضافة إلى ترشحه لجائزة الأوسكار خمس مرات عن أدوار متعددة، إلا أن قدراته الأدائية قد فاقت المتوقع في دور رينولدز وودكوك من خلال فيلم “خيوط وهمية” phantom thread حيث تقمص لويس دور مصمم الأزياء الإنكليزي الروتيني متعنت الرأي ومتحجر الرأس، الذي يقاوم حب امرأة غريبة عن حياته، إذ تظهر تلك المقاومة من خلال رفض تغيير نمط حياته وانفعالاته الصادقة في ذلك، إلى خضوعه لرغبة قلبه والتعبير عن ذلك أيضًا بحرفية شديدة تحسب له. وهو أداء قوي لدي لويس يليق بكونه آخر أدواره قبل اعتزاله التمثيل.
كما تحسب لثنائي البطولة النسائية القوي من فيكي كريبس وليزلي مانفيل حيث استطاعت كلّ منهما أن تؤدي دورها ببراعة، وعلى الرغم من اختلاف طبيعة الشخصيتين فإنه يعد أحد عناصر الإثارة والجذب في مباراة “بينج بونج” بين امرأتين تتسمان بقوة الشخصية في فيلم فريد من نوعه استغرق بعض الوقت للكشف عن طبيعته ونوع شخصياته، وذلك استمر حتى الدقائق الأخيرة وما قبل النهاية التي يتركها أندرسون مجالا واسعا للتأويل الذي يذكرنا بنهاية فيلمه ماغنوليا 1999 عندما أمطرت السماء ضفادع!

كاتبة صحافية، روائية، وناقدة سينمائية مصرية