ما بين التناقضات في الأداء التي تنوعت بين العنف والرِّقة، وبين السيطرة والخضوع والانتصار أحيانًا والهزائم المتكررة معظم الوقت؛ تابع المشاهدون الأداء الخارق للممثلة مارجو روبي، التي جسّدت في فيلمها “I Tonya/ أنا تونيا” سيرة ذاتية لواحدة من أشهر الشخصيات العامة في أميركا في تسعينيات القرن الماضي، وهي بطلة التزلج تونيا هاردينج.

استخدمت هاردينج طريقة الحرب النفسية في تدمير منافستها
يتّخذ الفيلم طريقه السردي عندما يتم اتهام تونيا هاردينج بالتدبير والتخطيط لمؤامرة ضد زميلتها -أو منافستها على الأولمبياد- الأميركية نانسي كريجان، حيث استخدمت هاردينج طريقة الحرب النفسية في تدمير الزميلة المُنافسة، عبر إرسال خطابات مجهولة المصدر، والتي تحتوي على تهديدات واضحة بالقتل في أثناء عرض التزلج الخاص باللاعبة؛ ولكن يتطور الأمر من مجرد بث ما يُثير الفزع وإفقاد كريجان التركيز في البطولة إلى ما هو أسوأ، بعد أن يقوم المرتزقة القائمون على إرسال هذه الخطابات بالاعتداء عليها بالضرب وكسر ركبتها، ليتم اتهام تونيا بالتدبير لذلك الاعتداء.
يدور الفيلم حول المشكلات الاجتماعية والسياسية المنتشرة في أنحاء الولايات المتحدة التي لا تخفى على أحد، خاصة إذا تعلّق الأمر بالأم القاسية لافونيا/ أليسون جيني التي تسببت في إفساد حياة ابنتها النفسية، إذ تُمارس ضربها وإهانتها بسبب ودون، وكأنها تُحمّلها دين دفع فواتير نجاحها كبطلة تزلج ذائعة الصيت من خلال إذلالها بما دفعت من أموال للمدربات من أجل تدريبها على التزلج.
تواجه تونيا حياة قاسية، فتهرب منها إلى الحياة الأقسى والأشد إيلامًا بالزواج من جيف/ سباستيان ستان، الذي وصفته في أثناء قيامه بالاعتداء عليها بالضرب المُبرح بأنه -رغم ذلك- الشخص الوحيد الذي أحبت.
يدور السياق الدرامي الذي كتبه ستيفين روجرز بين الأحداث الآنية وشِبه التسجيلية، حيث يقوم الممثلون بالنظر إلى الكاميرا وسرد الأحداث الماضية التي تُعّد إدلاءً بالشهادات، حيث تستهل أحداث الفيلم تونيا البالغة من العمر أربعة وأربعين عامًا وهي تدخن جالسة على مائدة مطبخها، وتروي أحداثًا مرّت بها، لينتقل روجرز إلى الشخصيات التالية والمؤثرة في الأحداث الهامة في قضية بطلة التزلج العالمية.
يطغى التناقض على أقوال الشخصيات ليتم إعادة ربطها وجدلها في شكل أنيق يُفسّر مامضى من أحداث وما سوف يأتي.
شخصية شون/ بول والتر هاوزر، أهم الأمثلة على ذلك، التناقض والتدرج من اللاشيء إلى النضج والجلوس على عرش التحكم في الأحداث، كما يُعّد هاورز من أكثر مصادر الكوميديا في أحداث الفيلم، لا يشعر المشاهد بالتيه في أثناء الانتقال الدرامي بين الواقع والتفات الممثلين للكاميرا للإدلاء بشهادتهم عن الحدث، فتجد مشاهد عرض تونيا راقصة على الجليد لا تتعارض مع التفاتة الشهود للكاميرا لتسجل اعتراف هو أقرب إلى الادعاء بأنها ليست مُخطئة، دائمًا ليس خطأها؛ كما تظهر شخصية لافونا -الأم القاسية- تنظر إلى الكاميرا التي تُسجّل شهادتها عن الحادث وهي تضع ببغاء على كتفها الأيمن؛ إذ ينقر في أذنها كل برهة، بعد أن حلقت رأسها بشكل فج، وتتحدث بلامُبالاة عن ابنتها التي لا يعنيها أمرها مطلقًا؛ ثم ينتقل السرد إلى تلك المواقف التي تتحدث عنها أمام الكاميرا التي نظرت إليها بثباتٍ طاغٍ استحقت عنه جائزة الأوسكار 2018 لأفضل ممثلة مساعدة.
نجح المخرج كريج جيلسبي في المزج بحرفية وبراعة بين القصة الدراماتيكية لـ”هاردينج”، بما تتضمنه من حديث عن انتمائها لطبقة اجتماعية بعينها وإيذاء جسدي وعزيمة لا تلين، وبين كوميديا سوداء عن المشاهير والهجوم المرتبك الذي استهدف راقصة بالية الجليد بلا هوادة، وظّف جيلسبي الكاميرا بأفضل ما يُمكن لنقوم بالإشادة به وتقديره، حيث دارت كاميرا جيلسي في أنحاء حلبة الرقص الجليدية بسرعة غير مُشتتة للنظر. فقط غلالة من الضباب تمحو وجه المتزلجة لتتيح فرصة للمونتير ليُخفي وجه مارجو لظهور غيرها من الدوبليرات اللائي يتحركن بمنتهى الرشاقة التي لا تُشعر المشاهدين بأدنى اختلاف.
يعد فيلم “أنا تونيا” أفضل أفلام المخرج كريج جيلسبي بعد إخراجه فيلم “لارس والفتاة الحقيقية” عام 2007 من بطولة رايان جوسلينج وإيميلي مورتيمير -والحاصل على جائزة النقاد لأفضل سيناريو أصلي، وجائزة الجولدن جلوب لأفضل ممثل ذهبت إلى جوسلينج- وذلك لما بذله جيلسبي من مجهود كبير مستخدمًا أدواته الإخراجية على أكمل وجه، ومحققُا النتائج المتوقعة من حبكة وترابط سردي ودرامي للأحداث، مع سلاسة الكاميرا الرشيقة التي تميزت بها مشاهد الفيلم الدرامية، والتي تنقلت من مشاهد الاستعراضات السريعة إلى مشاهد العنف الفجّة التي تحمل ألفاظ بذيئة على ألسنة جميع الممثلين، وخاصة تونيا الناقمة والرافضة لجميع مراحل حياتها البائسة.
تونيا، التي اتسمت بالهمجية في الحديث وإلقاء السباب والشتائم بين كل جملة والأخرى -تمامًا كوالدتها- تُعطي انطباعًا للمُتلقي بأنها ضحية تارة، ومتجبرة تستحق اللعنة تارة أخرى، مما يُعطي للشخصية التي تُجسّدها مارجو المزيد من الثراء والزخم، ذلك الذي يؤهلها إلى الترشح لجائزة الأوسكار كأفضل ممثلة دور أول.
على جميع الأحوال، فإن فيلم “أنا تونيا” يُبرز شخصية رائجة في المجتمع الأميركي، بل من قلب الثقافة الشعبية الأميركية، ذلك المجتمع الذي يصنع آلهته التي يعشقها ومن ثم يكرهها إلى الأبد من أجل خطأ ما، مثلما نرى في حالة تونيا التي ذاعت شهرتها كأفضل متزلجة، والتي عانت اضطهاد لجان التحكيم الدولية التي تعتمد معايير الثراء والفقر في تقييم المتسابقات على أسس مادية لتحديد من منهن الأحق في تمثيل الولايات المتحدة بالخارج، ومن لها القدرة على التميز بإبراز أفضل ما أنتجت أميركا من أبطال رياضيين؛ وعلى الرغم من ذلك فقد نالت تونيا الشهرة والمحبة، من ثم أطُلق عليها لقب “ملكة القلوب”، ومن بعد إثبات تهمة التورط في الاعتداء على زميلتها أصبحت إلهة الشر المكروهة.. هكذا الحال في أميركا، حاجة متكررة إلى بطل مُخلص وآخر مكروه مطلوب قتله.

كاتبة صحافية، روائية، وناقدة سينمائية مصرية