هو المنفي الذي يقضي عمره بحثاً عن الوطن، يخوض رحلة الرعب في إعادة تعريف العودة إلى أين؟ ومن أين؟ أسئلة لا مناص من سؤالها رغم عدم يقين الإجابات الكثيرة. أديسيوس الإغريقي الذي يعد من أوائل الرحالين في التاريخ، يخرج من رحم الحرب، طروادة التي دامت الحروب على أراضيها ردحًا طويلاً من الزمن. يعود… لا لم يعد بل بدأ رحلة هستيرية للعودة، ولكن وإن كان من غير المنطقي إيجاد نقاط التلاقي بين الأوديسة ورحلة السوري، أو ربما من المجحف أيضًا أن نبحث في تلك العلاقة، من مبدأ السؤال عن كيف يمكنك وصف نجاتك؟ كيف يمكنك تحمل وحدانية هذه النجاة؟ ومن أين تلتقي الأوديسة فعلاً برحلتك أنت؟

بعدسة جلال مندو

تجربة يخوضها المتفرج والمتلقي كما تخوضها بطلات العرض الخمس

ولكن مع أن هذه الأسئلة مربكة إلا أنه يكاد يكون المميز الوحيد فيها هو القدرة على طرحها، وهذا بالفعل ما قام به عرض أوديسا لأنيس حمدون. البحث في رحلة بطلته السورية هدى نحو بلد اللجوء ألمانيا، ضمن تحديات ومصاعب تكاد لا تنتهي حتى تبدأ من جديد، رحلة بمثابة تجربة يخوضها المتفرج والمتلقي كما تخوضها بطلات العرض الخمس اللواتي يتناوبن خلال العرض على تقديم ذات الشخصيات الثلاث، لتبدو اللعبة – المسرحية متمازجة مع لعبة العرض القائم على عرض المهمات، وأيضًا مع تجربة كاتب ومخرج العرض نفسه في زج نفسه مع الطالبات في رحلة مشروع التخرج كأستاذ مشرف في عرض يستعمل تقنيات أدائية متنوعة، لعبة مكشوفة لتبادل أدوار اللعب لتكون مسرحيته مسرحًا داخل مسرح.

حصل أنيس حمدون على جائزة أفضل عمل مسرحي في البلدان الناطقة باللغة الألمانية

بالعموم هناك تاريخ طويل وجدلي معقد حول مفهوم العمل المسرحي بين الأكاديمي أي الناتج من الخلفية الأكاديمية والنظرية، وذلك القادم من الخلفية التي تعتمد على التطوير عبر الإنجاز والعمل، وبينما لم يكن أنيس “خريج الكيمياء” قد درس المسرح بطريقة أكاديمية، إلا أنه قدم له جل وقته وجزءًا مهمًا من حياته، وصنع مهنة احترافية مع الوقت تبلورت كما يعبر هو مع اللغات الثلاث التي يتقنها “العربية والإنكليزية والألمانية”، فقدم منذ وصوله إلى ألمانيا مسرحيته “الرحلة The Trip” بالألمانية في 2015، وهي التي فازت بجائزة أفضل عمل مسرحي في البلدان الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا وسويسرا والنمسا) حسب مجلة “ناخت كرتيك”، ثم تابع في عروض باللغة الألمانية آخرها هي هذه الأوديسيا مع معهد Die Etage التي بلورت عمله في مهنة التدريس كأول تجربة متكاملة تخرج بنتيجة عرض مسرحي.

تغيير جذري في المسرحية

وعلى الرغم من أن مستوى الطالبات في سنتهم الأخيرة كان “بسيطًا ومتواضعًا” كما يوضح أنيس، إلا أنهن استطعن تقديم طاقة وحماس لهذا العمل، لينجز عرض الأوديسيا ضمن 70 ساعة بروفات فقط وهو أمر تطب جهدًا كبيرًا منه كما أوضح في شرح العملية التي خاضها حتى ابصار العمل النور، حيث أقدم على إعادة كتابة مسرحية سابقة له كتبها في 2016  كان بطلها شاب يدعى هادي، وقدمها ضمن صيغة معدة خصيصًا لمدرسة مع مسرح كيل في مدينة أوسنابروك، إلا أن متطلبات العمل مع الطالبات الخمس أجبره على تغيير جذري في المسرحية لتبدو وكأنها مسرحية جديدة، وكل ذلك مبرر بالنسبة لأنيس لأنه يعي كمية المسؤولية الأخلاقية مع التدريس، فهو الذي قام بالكثير من الورشات وعمليات التدريس الخاصة في سوريا وألمانيا، يجد نفسه دائمًا في حالة من الحب مع هذه المهنة حسب قوله، إذ أنه يعتقد أنه يستطيع ببساطة أن يصنف نفسه كمخرج مسرحي ولكن أيضًا كمدرس مسرحي وخاصة لمادة الصوت الني ربما أخذ الهوس بها من جده المسرحي السوري “فرحان بلبل” الذي علمه تقنياتها من مجمل ما علمه.

من العرض – خاص

تتجاذب مع أنيس أطراف الحديث تتفق وتختلف معه، لكنك لن تستطيع إنكار الطاقة الهائلة التي يمتلكها، الحيوية الحاضرة في شخصيته، في انتقائه للأحداث التي يسردها وكيف يقوم بتنسيقها، لديه القدرة على الحضور والنقاش ذو النفس الطويل، ولا شك أن التجارب في مجال المسرح هي دائمًا حروب صغيرة نخوضها كلنا متى ابتلينا بداء الحب لهذا الفن الذي يأكل من أعمارنا بقدر ما يعطينا من قوة.