رمزي شقير ممثل ومخرج مسرحي سوري فرنسي جاء إلى برلين مشاركا في مسرحية “المصنع” كممثل، مجسّدًا دور رجل الأعمال السوري فراس طلاس. في مقهى مسرح الشعب في برلين تبادلنا الحوار حول المسرح وتعاملنا معه على أنه مجموعة من المشاهد:
إعتام بطيء وبقعة ضوء تتركّز على طاولتنا.

رمزي شقير، مسرحية المصنع، بعدسة David Baltzer
مشهد 1 : من مسرحية المصنع : “عليّ أن أدافع عن الشخصيّة التي ألعبها و إن كانت مجرمة”.
فن: ما الذي دفعك للمشاركة في هذا العمل؟
عرض المخرج عمر أبو سعدة الدور علي، وكنت قد اطلعت على تجاربه السابقة ملاحظًا خصوصيّته منذ بداياته في سوريا. عمر أبو سعدة ومحمد العطّار وبيسان الشريف، هذا الثلاثي يجسد أصحاب رؤية معاصرة تطرح موضوعات تهمّنا، وأعرف الآلية التي يتبعونها في مجال السينوغراف والبحث قبل العمل. تشكلت بذلك رغبتي لخوض التجربة ولم أختر دوري، بل جئت إلى هذا الدور لأجسده.
فن: تجسّد في العمل شخصية فراس طلاس، ما التحديات التي واجهتك على الصعيد النفسي؟ وما المشاعر التي رافقت تجسيدك لهذه الشخصيّة؟
فراس طلاس هو ابن وزير الدفاع مصطفى طلاس الذي نعرف أفعاله والاستفادات التي حصدها كغيره من العائلات المرتبطة بالنظام، وبنظر أغلب -إن لم يكن كل السوريين– هو شخصية مشاركة في الجريمة الإنسانية في سوريا. الشخصية مركّبة، لكن لم يكن فيها ما هو مخبأ، نملك حولها معطيات كثيرة تمكّن أي ممثل من لعب دوره. حاولت التواصل معه موضحًا أننا نحضر لعمل مسرحي ولأسأله: إن كانت لديك فرصة لتقول للناس شيئًا ماذا ستقول؟ فرفض مبررًا أنها شؤون ترتبط بالعمل الفني. لم يكن الأمر بحثا حول شخصية ما زالت بيننا فقط، بل ضرورة أن تجسّد بقدر كبير من الطبيعية كما لو كنت أروي قصتي. شعرت بالأذى لحملي صفات هذه الشخصية الانتهازية. لكن كممثل عليّ أن أدافع عن الشخصيّة التي ألعبها وإن كانت مجرمة. لم أقدم شخصيته ولم أبحث له عن مخرج من مصيبته -قاصدًا قضية مصنع لافارج- وإنما حلّلتها قائلًا: هذا ما حدث وهذه أسبابي تاركًا الحكم للناس.
فن: لم يجرؤ على اتخاذ قرار الانتحار في المسرحيّة. كان موته مصادفة برصاصة طائشة.
جبان.. هو ومن يشبهه يموتون مصادفة أو أحيانًا موتًا هنيئًا لا نتمناه لهم.

من مسرحية المصنع، بعدسة David Baltzer
مشهد 2: من مسرحية الزير سالم والأمير هاملت: “ابتعدت عن الآخر وصرت أقرب من رمزي الإنسان“.
فن: في تقديمك لهذا العمل كتبت عن صدمتك كطالب شرقي بآراء الغربيين عنك قائلاً: “يتحدثون عن شرقيتي بغربيتهم”. بعد مرور سنوات هل اعترى المشهد تغير؟ وما هي ملامحه؟
اعتراه تغيرٌ طبعا. بحثت حينها عن الآخر متناسيًا البحث عن الذات لأجد لاحقًا أن العكس هو المهم. فليس من الممكن أن نفهم الآخر دون فهم أنفسنا أولاً. أرى الحياة الآن بشكل مختلف باحثًا عن صلة بيني وبين الشخصيات مكتشفًا من خلالها ذاتي. ابتعدت عن الآخر وصرت أقرب من رمزي الإنسان متسائلاً كيف كان سيتصرف لو كان في مكان آخر؟ ما الذي يجبر أحدهم على القتل؟ هل لأنه مجرم فقط؟ لكل شخصية في تركيبها مكنونات أعمق، من المهم إدراك كيف بنيت كإعادة بناء للذات لتتمكن من رؤية الآخر بسلاسة أكبر. لم أعد أفكر كيف أشبه أنتوني كوين أو كيف يمكن أن أؤدي مثل مارلون براندو. لدي خصوصيتي في طريقة تمثيلي وتحليلي للشخصية وبالتالي أملك شيئًا من الفرادة لابد من العمل عليها.
فن: سالم، حين تلبسته روح والد هاملت قال إن كل حجر في الصحراء سيروي قصته مذكّرًا باسمه. لو تحدثت الحجارة اليوم أي قصص ستروي؟
نحن أمام منظومة لاإنسانية مختلفة للأشياء في كوكب تفتتت فيه المجتمعات. قبل الحديث عن قصص الحجارة علينا إدراك محاولات محو القصص من جذورها، أي محو وجودنا المادي والروحي. اليوم لا يطرد المرء من منزله فحسب بل يهدم وتهدم الحارة. نسأل حينها: أين المشكلة إذًا؟ في سوريا تنقصنا العدالة. لدينا مجرم وأداة جريمة ومن ارتكبت بحقهم الجريمة، وكلامي يشمل كل الأطراف لكننا نعيش في عالمٍ المجرمُ فيه طليق والعدالة غائبة. منطق العدالة في العمل كان منطقًا مختلفًا يبحث في تاريخ شخصيات لنقول كيف من الممكن الحديث عن العدالة أكثر من كونه سعيًا لخلق عدالة جديدة.
فن: سالم أيضًا بحث عن العدالة فقال إن “العدل الكامل ما أريد” كيف تحاور طرحه وفق معطيات اليوم؟
لا عدالة مطلقة. هو هدف نبيل نسعى إليه رغم صعوبته لكن يفضل دومًا الاقتراب منه لأن الضفة الأخرى عنيفة.

من مسرحية المصنع، بعدسة David Baltzer
مشهد3: من مسرحية إكس – عدرا: “ملامح القصص شي بيجرح القلب”.
فن: في إكس-عدرا خرج ممثلو العمل من بين الجمهور وأصحاب التجارب كانوا الرواة. ما ملامح خصوصية هذا العمل؟
لخصوصيته بعدان، أولهما مرتبط ببحثي المسرحي ورغبتي في العمل مع أشخاص لا خبرة لهم في التمثيل، وعلى قصص نساء سوريا، فأنا لا أعرف المرأة السورية حقيقة. زوجتي أجنبية ولم أعش علاقة حب مع امرأة سورية. ثانيهما مرتبط بالمسرح المعاصر الذي يعتمد على سرد القصص مقدّما حكايا تحدث في حاضرنا. كان بحثا عن شكل جديد يمكّن الشخصيّات من سرد قصصها دون إحياء للألم من خلال خلق مسافة بين الشخصية وقصتها، كأنها من الماضي، تسرد على لسان شخصية أخرى، لكننا نعلم أنها قصتها. كان العمل بسيطًا بعيدًا عن اجترار عاطفة الجمهور. هنّ قويات، لم أقدمهنّ كضحايا، فالجلاد هو الضحية حقيقة، لذا خرجوا من صالة المسرح لأنهن طليقات كأي امرأة جاءت لمشاهدة العرض.
فن: ” ذاكرتك هيي كل شي بتملكيه”. إحدى العبارات الواردة في العمل. ما المشهد الذي لا يغيب عن ذاكرتك من هذا العمل؟
الملامح الإنسانية في القصص “شي بيجرح القلب” لم تمر دون ترك أثر داخلي. مثلا قصة هند التي قررت عدم الإنجاب. وسجنت مع نساء ينتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، أي يحملن فكرًا مختلفًا عن الشيوعيات التي كانت هي منهن والتقت بطفلة قررت تعليمها القراءة والكتابة. بعد فترة تأتي أمها لتأخذها من هند لأن الإخوانيات يخفن على الطفلة من أفكارها. هذا مدلول خطير يعكس كيف بنى النظام مجتمعًا كاملاً على الخوف والتوجس من الآخر. لهذا يفزع عندما يرى شعبا يتظاهر ضدّه، هذا فقط ما يمكن أن يهزّه.

من مسرحية المصنع، بعدسة David Baltzer
مشهد 4: ثنائية الممثل المخرج: “أستمتع كمخرج و أشعر أنّي في نزهة حين أمثّل“.
فن: كيف أثرت الثورة السورية على المسرح السوري؟ وهل ترى أن مفهومًا وملامحَ جديدة له تتبلور اليوم؟
كنت في فرنسا قبل الثورة، لذا لا أعد نفسي ممن كان بالثورة من الداخل وتظاهر معرضًا حياته للخطر ثم قرر الرحيل، على أني أشاركه نفس الموقف. في المسرح أو سائر أشكال الفنون ظهرت كتابات جديدة بعد سقوط تابوه الرقيب الفكري. فاتجهت الكتابة بعض الشيء إلى العامية وهو مؤشر على وجود مشكلة لغوية في الفن ترتبط بالكيفية التي نستخدم بها أدوات اللغة. من المبكر قراءة النتائج لكن شكل الحكايات المستمدة كلها من الواقع السوري يتغير. في فرنسا اليوم أغلب مخرجي المسرح والسينما من أصول أجنبيّة لا فرنسية لذا أقول نحتاج لسنوات ربما صار حينها السوريون ظاهرة فنية فعلا في الوجه الثقافي الأوروبي.
فن: كيف تختلف ملامح المشهد ما بين المخرج والممثل وفي أيهما تتنفس بحرية أكبر؟
أستمتع حين أكون مخرجًا. مسؤولياتي أكبر لأن الكثير من المسائل تتطلب قرارا ما، حتى لو كنت ديمقراطيا مع فريق العمل. كممثل، أشعر أنني في نزهة، فلا تلاحقني المسؤوليات حين أعود إلى بيتي. اليوم أفصل بينهما بحرفية ومتعة. أقول: محظوظ الممثل و”الله يساعد المخرج”.
فن : لو أتيحت لك الفرصة لارتجال مشهد ما حرًا من أي نص. ماذا ستقول؟
رمزي: أبحث عن الإنسان في داخلي. من السهل ظهور القسوة، ففي تركيبنا شق حيواني خطير قد ينفجر في لحظة ما. مهمّتي هي أن أطوع هذا الوحش في داخلي، وألا أدعه يكون مؤذيًا في يوم من الأيام.
إعتام تام ..
إخراج: عُمر أبو سعدة
نص: محمد العطّار
سينوغرافيا وآزياء: بيسان الشريف.
فيديو: رامي فرح وسامر عجّوري
تصميم أقنعة: محمد عُمران.
مساعد مخرج: عامر عُقدة.
الممثلون:
لينا مراد
رمزي شقير
سعد الغفري
مصطفى قُر
و
صالح كاتبة (موسيقا).

كاتبة ومعلّمة سورية