نورا أمين هي مصممة رقص، مخرجة مسرحية، وكاتبة، وهي إحدى مؤسسي ومؤسِّسات فرقة الرقص المسرحي الحديث بدار الأوبرا المصرية، وقد قامت بتقديم 37 عملاً مسرحيًا مع فرقتها المسرحية المستقلة “لاموزيكا” منذ عام 2000. إلى جانب ذلك؛ كتبت عدة كتب، آخر ما نشر منها كتاب “تهجير المؤنث” مترجمًا إلى الألمانية.
في الأعوام الأولى للربيع العربي، قامت أمين بترسيخ منهج “مسرح المقهورين” في مصر على مثال المخرج البرازيلي أغوستو بوال، فأخرجت مسرحيات تفاعلية بالميادين العامة والشوارع كي ترفع الوعي العام بالمشاكل الاجتماعية والنظام السياسي.
حاليًا تشغل نورا أمين كرسي فالسيكا غيرت للأساتذة الزائرين بقسم المسرح والرقص بالجامعة الحرة في برلين حيث ترأس حلقة دراسية عن الرقص كأداة للمقاومة والتغيير والشفاء. بناءً على تجربتها الشخصية تبحث مع طلابها في العواقب البدنية للصدمة. في مايو/أيار من هذا العام جلسنا معًا في حديقة الأميرات بكرويزبرغ، برلين بعد أن ألقت أمين محاضرتها الافتتاحية في أكاديمية الفنون بعنوان “تجسيد الصدمة”.
ما الذي يجعل الجسد مصدومًا؟ كيف يمكننا ادراك والإلمام بما حدث؟ وكيف يمكن أن نتحدث عنه؟
تبدأ نورا أمين محاضرتها بتجربة ساحقة: في عام 2005 التهم حريقٌ مسرحًا بجنوب مصر بعد أن أضرمت شمعةٌ ساقطةٌ النيرانَ في الديكور المسرحي. الاحتياطات الأمنية في المسرح المملوك للدولة لم تكن كافية، الأرض والستائر كانا قابلين للاشتعال، والباب كان مغلقًا من الخارج. عدد الموتى كان كبيرًا. أمين تسمي هذا “قتلاً جماعيًا من قِبل دولة فاسدة”. كانت صدمة جماعية، ولأمين تحديدًا كانت صدمة فردية حيث خسرت والد ابنتها في الحريق.
تجارب مثل هذه يصعب التعبير عنها بكلمات. نحن نحمل بالتأكيد أحداثًا بدنية وعاطفية في أعماق ذاكرتنا الجسدية، ولكن من خلال العمل على الجسد ومواجهته ترى نورا أمين فرصة للاستمرار.
عبر الرقص كوسيلة تعبيرية؛ يمكننا إدراك التجربة الجسدية والإلمام بها، ومن خلال إعادة التجسيد، تبدأ عملية التحول والاستشفاء من جانبي المُستعرِض والمتلقي. في عرضها الفردي “البعث Resurrection” تندمج التجربة الصادمة لحريق المسرح بالعرض، فتدخل مع متفرجيها في حالة تواصل فردي وتكلفهم بمسؤولية، وهكذا يتم التعامل مع المتلقين كأفراد وليس ككتلة.
“الآن يمكنكم أن تتنفسوا مرة أخرى”
نحن، كمستمعين ومشاهدين في أكاديمية الفنون، نحمل أيضًا مسؤولية ما. أنا شخصيًا داهمتني مشاعر الأَسر وانعدام الأمان. ما هو كم المشاعر الذي علي أن أسمح به لنفسي أثناء الاستماع؟ تحيطني قاعة المحاضرات بسياق أكاديمي واضح، يصفق الجميع في المواضع “الصحيحة”، يجلسون بهدوء، ولا يصدرون أصواتًا غير ملائمة للسياق. انفجار من المشاعر يبدو صعبًا بالنسبة إلي. تتحدث نورا أمين تحديدًا عن هذا الحصار الذي لا يسمح بأي تجاوب، فتصفه في محاضرتها بأنه لا يقف عند حدود ما هو ذهني وعاطفي، بل يمتد ليكون أيضًا تحديًا جسديًا. في بعض اللحظات تضظر أن تتوقف قليلاً كي تتماسك مجددًا. بعد إحدى التوقفات تقول للجمهور: “الآن يمكنكم أن تتنفسوا مرة أخرى”، فهي تدرك الجو العام للقاعة تمامًا. أما أنا فأستنشقُ الهواء كمذنبة.
تصف نورا أمين ردود فعل الجمهور على عروضها وصفًا مشابهًا. في أحيان كثيرة يؤدي الاحتواء المحكم للمشاعر إلى انفجار عاطفي فيما بعد، مقارنةً بإطلاق المشاعر بشكل تدريجي كجزء من التجربة. المتفرجون ينزعجون ويرتاحون في الوقت ذاته لانفجار عواطفهم المتراكمة. وتضيف أمين أن المشاركة الجسدية النفسية التي تتيحها أعمالها تخاطب بعدًا جسديًا يوحد بين الأفراد، إنه بعدٌ عامٌ من حيث شموله للجميع – هذا البعد هو العملية الجماعية لتذكر الجسد الممتلئ بالألم.
هذه معرفة استخلصتها أمين من أعوام خبرة عديدة. لا يهم إن كانت تعمل مع نساء من السويد، السودان، مصر، أو مع مجموعتها الطلابية في ألمانيا، جميعهنَّ يصفنَ مشاعر جسدية مشابهة عند مواجهة القمع والإهانة – ضغط على مركز الجسد وكأن المرء عليه أن يستسلم إلى الثقل الذي يسحبه تجاه الأرض.
اختزال المرأة إلى جسد كما حدث في حالات التحرش الجماعي بميدان التحرير في القاهرة
تبخّر الكرامة، وتجريد المرء من الإنسانية أثناء حدث مليء بالصدمة هما خبرتان جماعيتان موثّقتان لفقدان الهوية. النفس تُدمر وتُعزل وينكشف الذل. لا تعمل أدوات القوة والعنف على الجانب المادي والنفسي فحسب، بل تعمل بشكل خاص على الجانب الجسدي. المثال الذي تعطيه أمين هو اختزال المرأة إلى جسد كما حدث في حالات التحرش الجماعي بميدان التحرير في القاهرة. هذه الاعتداءات تتحول إلى رمز لممارسة القوة العنيفة ولإعادة الاستحواذ على السيادة الذكورية، ومن خلال ذلك جُرِّدتْ النساء من إنسانيتهن. ولا تقتصر هذه الظاهرة على العالم العربي فقط بل تتكرر في العالم بأكمله.
تشير نورا أمين مرات عديدة في محاضرتها ونقاشنا الذي تلاها إلى الأنظمة الليبرالية، فتذكر الاعتداءات الوحشية نصف العفوية ونصف المنظمة التي قام بها جنود الحرب العالمية الثانية على النساء، كما تذكر الصمت الحالي عن العنف المنزلي في ألمانيا. تقول أمين إن عروضها تفسح مجالًا لتمكين البشر، للتضامن والإنسانية، كما تمنح عروضها فرصة لكي يشفي المرء نفسه .ويستعيدها
المقاومة النسائية في ميدان التحرير، القضية التي رفعتها عائلات ضحايا المسرح الذي حرق عام 2005 ضد الدولة، والأعمال المسرحية والأدبية لنورا أمين – كل هذا يناقض فكرة الاستسلام بصمت. نورا أمين تحارب من أجل استمرارية المقاومة والمواجهة.
ترجمة إبراهيم محفوظ

ناقدة مسرحية وفنّانة أدائية نمساوية