عاصم الباشا: نحات وكاتب ومترجم سوري يعيش حاليًا في إسبانيا. بدأ النحت وهو ابن سبع سنوات إثر انضمامه لأكاديمية في بيونس آيرس حيث ولد هناك عام 1948 لأب سوري وأم أرجنتينية. صدر له: “وبعض من أيام أخَر”، رواية 1984، “رسالة في الأسى”، مجموعة قصصية 1994، “باكرًا بعد صلاة العشاء”، مجموعة قصصية 1998، “الشامي الأخير في غرناطة” يوميّات 2010، “غبار اليوم التالي”، رواية 2015.

عاصم الباشا، مجلة فن

تقول: لا تحتمل مفردة “وطن” وتضعها بين هلالين، هل تعني به الوطن/المكان؟

أقصد “الوطن” الذي تلقاه في الخرائط. ثمة من قال “وضعت الحدود للفصل بين شبيهين”. “الوطني” محدود الأفق، هذا الداء يصيب من لم يعتد التفاعل مع ثقافات أُخر، وهذه من صفات الجاهل. “.. إنما نعيش في الضيعة ذاتها التي يسمّونها العالم“ كما قال شاعر سوري قديم من العصر الهيلينيستي اسمه “مليغاريوس“.

عشت ثلاثين سنة من المنفى، ماذا قدمت لمنفاك ليغير من طبيعته؟

لا أستطيع التباهي بأنني قدّمت شيئًا، فكل ما أنجزته في إطار عملي كنحّات كانت بغيته البلد: سوريا. لم أعمل يومًا واحدًا للإسبان، حتى في النصب التذكاري “تحية لشغّيلة الأرض” ترى أنني أقصد كلّ فلاّحي العالم، ووسمته بأثمن ما قدّمناه لتأريخ الفنّ: الحركة الداخلية للكتلة. وهذا جانب غير متداول في النحت الأوروبي.

كيف قوبل رفضك إنجاز تماثيل لحافظ الأسد؟

بالملاحقة والتهديد والإغراء بالمال. فور تورّطي بتلك المصيبة (“زيارات” إلى بيتي من طرف القصر الجمهوري) أدركت أنهم ينوون خنقي، فبادرت بإرسال أولادي إلى إسبانيا ثم زوجي وكنت آخر الراحلين بدعوى “الإجازة”. رفضي الصريح كان رحيلي واختيار المنفى الذاتي، لذا لاحقتني المخابرات لسنوات بعد ذلك.

تعتبر نفسك نحاتًا يكتب أحيانَا، وتقول “النحت انكسر عندي منذ سنين” ماذا تفعل الآن إذن؟

أكتب ما يخطر في البال ويستحيل رسمه أو نحته، لأننا نتلقّى ما حولنا بصور شتّى، بعضها بحسّ تشكيلي وأخرى تأتيك مترجمة إلى كلمات. أما النحت.. فانقطعت عنه منذ سنوات ثلاث، لأن محنة البلد أصابتني أيضًا، أولاً بمقتل أخي نمير تحت التعذيب، وثانيًا بقيام جيش النظام ومرتزقة حزب الله بنهب أربعين سنة من جهدي في التشكيل. فقد جمعت في يبرود نتاج تلك السنوات بغية تأسيس مركز للنحت، كان بمقدوري جعله من أبرز مواقع النحت في شرقنا. لكنهم نهبوا كلّ شيء ولم يتركوا سوى هيكل الطاولة التي كنت أعمل عليها. ولا أحد يدري من فعلها.

 

اضطررت لدفن أعمالك النحتية ورسوماتك، كيف تعيش اليوم مع هذا الفقد؟

بعض المنحوتات، لا تصل للعشرة بالمئة. فالرسوم لا تحتمل رطوبة باطن الأرض. تلك جمعتها في بيت الوالدة الذي يتخذه حزب الله اليوم مركزًا له، كما احتلّوا بيوت بقية إخوتي.

أعيش مبتورًا، كمن حذفوا من حياته أربعين سنة من وجوده. لعلّ في هذا ما دفعني إلى الانقطاع.

تقول: “أرى أن مهمة النحت هي القبض على من ينظر وليس خطف نظره فحسب، ثم مرافقته في ذاكرته الخاصة”، وتقول: “الفن ليس في الإدهاش، إنما يلجأ إلى ذلك العاجزون”. حدثنا عن رؤيتك هذه

هذا ما أراه. تمامًا كما هو موقفي المؤيّد للبسيط والمحتقر للمعقّد، فبلوغ البسيط أصعب. أن تنحت لا يعني أن تصنع كتلة يصطدم بها الناس، لا بدّ لها أن تستوقفهم وتدعوهم إلى التفاعل معها شعورًا ثم تفكيرًا لتترك في ذواتهم ذكرى ما. ما استخدمت الإدهاش أبدًا كغاية لأعمالي. الشطارة حرفة وليست إبداعًا.

اشتغالك على الإنسان جليّ، ولكن هل تعزل فنّك عن السياسة؟

أبدًا. كلّ شيء سياسة عندي. أن تصبّح جارك بالخير سياسة، وأن تفضّل الحقول على المدينة سياسة، وأن تنام القيلولة سياسة. موقفك من الكون سياسة.

هل تؤثر العلاقات العامة على الفن؟ أقصد على المنتج الفني لا على رواجه

ليس عندي. أنا معروف بفشلي في مجال العلاقات العامة. أعمل ما يعنّ لي ولا تأثير لرغبة الآخرين بعملي. ولا أستطيع الترويج لما أصنعه لأنني أعتبر نفسي مخفقًا محترفًا.

هل تتابع أعمال التشكيليين الشباب؟ هل من تجارب تلفتك؟

بعضها. عزلتي لا تتيح لي الاطّلاع على كلّ ما ينجزونه، لكنني واثق من أن هناك، دومًا، طاقات ما واعدة، وهي طاقات صنعت نفسها بالعمل، فمعروف تدنّي التعليم في البلد، حيث عشنا عقودًا من التجهيل الممنهج.

كيف تنظر إلى أصدقائك الذين خسرتهم بسبب الثورة؟

مؤلم هو الأمر. تشعر وكأنك كنت غافلاً فخانوك.

لماذا تكتب؟ أليس النحت كافيا لتقول ما تريد؟

ثمة جواب أستعيره من فيلم سينمائي: “لأنها فكرة خطرت لي”. مأساتي أنني لم أمارس الموسيقا (اكتفيت بالسماع) ولست قادرًا على التمثيل.. وقد تأخّر الوقت لأتعلّم رقص الباليه!

لمن يقرأ عاصم الباشا اليوم؟ ما هي الكتب التي قرأتها وقدمت لك شيئًا مؤخرًا؟

قرأت العديد من روايات وقصص الشباب السوريين، وأعمالاً لروائي عراقي منفي بدوره. كلّها، على الإطلاق مؤلمة مؤلمة. لذا ألجأ إلى بعض كتاب أمريكا اللاتينية، ومعاودة قراءة من أعجبني في حينه. والمعاودة تجربة مفيدة، فقد تصادف أن ما أعجبك في الماضي ما عاد يوقظ فيك ذات الانطباع. هذا يعني أنك ما زلت حيًا وتتطوّر.