مصطفى يعقوب، فنّان سوري ماهر في اختزال الأفكار في صور تزن كلّ منها ألف كلمة، تصاميمه مميزة بقسوتها وطريقتها المباشرة في إصابة الهدف، المسافة بين تخصصه في هندسة الاتصالات والفنون الرقمية إلى إبداعه في الفن ليست كبيرة، فالثورة أذابت المسافات، ونبشت ما تحت الركام، وأزالت الستار عن الحقائق التي كانت تمشي لسنين طويلة وراء الجدران دون أن يجرؤ الكثيرون على دقّ مساميرهم فيها.

دون أي “تجميل” أو تشذيب لما يحصل اليوم في سوريا، يضع مصطفى يعقوب الأمور أمام المشاهد بكل ما فيها من صدمة، فيضع مثلًا صورة بوتين على عملة الألفي ليرة سورية، فيختصر مئات الخطابات والتحليلات عن هيمنة روسيا على الاقتصاد السوري، وعن صفقات المصالح المادية، وعن المسيطر الحقيقي والمدير لشؤون البلاد الغارقة في دمارها من سنين، ثم في صورة أخرى يضع صورة العقل البشري على مسجد قبّة الصخرة بدلًا من القبة الذهبية المعروفة، صارخًا بأنَّ العقل هو من أضاع القبّة وكلّ ما تحمله من رمزية لفسطين، وبأنّ العقل هو من يحرّر الأوطان وهو وحده القادر على إيصال شعوبنا إلى “برّ الأمان” الذي سمعنا عنه فقط في القصص والحكايات.

وتتوالى صور مصطفى يعقوب التي لا تحتاج للغة لشرحها، ولا لمترجم يشدّ مآلاتها ويمطّ مقاصدها ضمن إطارات الكلمة وما تعنيه في سياقات مختلفة.

في الكثير من أعمالك نرى صور الوجوه البشرية بمختلف تعبيراتها، حتى أنَّك نشرت سلسلة من الصور لسياسيين أجانب منهم جون كيري وآنجيلا ميركل لا تختلف وجوههم فيها عن وجوه ضحايا التعذيب في سجون النظام السوري، كم يستطيع أن يحمل الوجه برأيك من أفكار دون أن ينوء بحمله؟ وإن كان للبلاد وجه، فكيف كنت لتتصوره؟

في كل مرة نبتسم فيها أو نعبس، نضحك أو نبكي، ترتسم على وجوهنا تلك المشاعر على شكل انحناءات وتجاعيد سرعان ما تزول وتتلاشى بزوال الانفعال، ولكن بمرور الزمن والتكرار ستنحفر تلك المشاعر عميقًا في الوجه ولن تزول أبدًا..

هناك تجاعيد للفرح، وأخرى للحزن، وكلّما مر الزمن أكثر تزداد تلك التجاعيد تفصيلًا وتشعبًا كجذور شجرة تتضخم عميقًا في قلب الارض، وفي النهاية تتصل كل تلك التجاعيد وتتشابك مع بعضها البعض فتتماهى وتنصهر الحدود الفاصلة فيما بينها.. يتداخل حينها الفرح مع الحزن والابتسام مع العبوس،  فالزمن هو ما يجعل الوجه ينوء بأثقاله. وجه الوطن عجوز عمره آلاف السنين.. ضحك وبكى، عبس وابتسم ملايين المرات حتى حفرت فيه تلك المشاعر عميقًا جدًا، فبات ضاحكًا باكيًا، عابسًا مبتسمًا في آن.. وكلٌّ منّا يرى جزءًا من تلك التجاعيد وفقًا لموقعه فيه أو قربه وبعده عنه.

الأجنّة البشرية متكررة في اعمالك، فهي مرّة في سنبلة، ومرّة أخرى في تابوت، ومرّة ثالثة تشنق نفسها بحبلها السرّي، قد تُفسّرُ صرخةً في وجه “عالم الكبار” للنظر إلى الطفولة المدمرة، ولكن هل خطر ببالك يومًا أن توجه صورك للأطفال أنفسهم؟ أي أن تصمم ما يفهمه الطفل نفسه؟

رغم اني رأيت مرة إحدى ورشات الاطفال للرسم في تركيا -وكانت تعالج آثار الحرب نفسيًا عن طريق الفن، إذ انتقوا إحدى لوحاتي ورسموها بأناملهم الجميلة، تلك كانت إحدى أهم لحظات سعادتي- ولكنني لا أرى نفسي بمستوى براءة الأطفال لأصنع فنًّا لهم، لذلك نذرت أغلب أعمالي لفضح قذارة الكبار.

في بعض أعمالك عمدت إلى تصوير مفهوم للمسافات بين البشر ولطرق الالتقاء ومساحات التقاطع بينهم، كم يستطيع الفن برأيك أن يقرّب المسافة بين العالم وبين ما يحدث في سوريا؟

 اللغة، لون البشرة، الثقافة، الأديولوجية وكلُّ ما يفرّق البشر عن بعضهم البعض، هو مجرد قشرة ظاهرية يقبعُ تحتها الإنسان نفسه، وظيفة الفن الحقيقية، برأيي، هي الغوص عميقًا، وتجاوز هذه القشرة للوصول إلى المشاعر الأساسية والمشتركة عند جميع البشر، فحينما نصل لهذا العمق ستتلاشى المسافات التي أوجدتها تلك القشرة، وسنتصل عندها جميعًا مع بعضنا البعض ككائنات بشرية أولا قبل كلّ شيء. لذلك أعتبر لغة الفن هي لغة العالم أجمع.

 

نظرًا إلى أنَّ مفهومية الرموز مرتبطة نوعًا ما بعصرها، على سبيل المثال: شكل “ذاكرةUSB ” الذي ربطته بتابوت في صورة، قد لا يكون معروفًا قبل عشرين سنة، كما انَّه قد ينقرض بعد عشرين سنة أخرى، وكذلك شعارات قنوات الجزيرة والمنار وشركة زين وغير ذلك مما استخدمته في صورك، فما مدى قدرة هذه الرموز على الصمود بفكرتها بعد مرور الزمن؟

هناك جزء كبير من أعمالي يعالج قضايا معاصرة، وأحيانًا عابرة كحوادث معينة حصلت ولا تزال تحصل كل يوم، وهي بمجملها موجهة للناس المعاصرة لهذه الأحداث قبل أي أحد آخر. بصراحة لم أفكر إن كانت ستبقى أم لا بعد عشرات السنين، ولكن ربما ستبقى كوثيقة تاريخية لمرحلة عابرة يستأنس بها لفهم مجريات أحداث زمنية معينة نعيشها اليوم.. أقول ربما ولا أجزم بذلك.

 

أول عمل رسمته في الثورة هو لوحة لفدوى سليمان والساورت وعلم الثورة وخارطة حمص كلها مرسومة على حائط تضع عليه يدها وتتحسسه طفلة صغيرة تحمل بيدها الأخرى دمية، ما المسافة بين عملك الأوّل هذا المليء بالأمل ورمزيات الوحدة الوطنية، وبين آخر أعمالك حاليًا بعد ما يقارب السبع سنين؟

حينما أنظر لأعمالي منذ 7 سنوات، وأقارنها بالآن، أرى طفلاً صغيرًا عابثًا مليئًا بأمل طفولي بريء،  لقد كبرنا كثيرًا منذ تلك اللحظة، وأصبحنا أكثر نضجًا ومعرفةً بقذارة الواقع الذي نحيا فيه، لن أسمّم عقول الناس مرة أخرى بأملٍ وهميٍّ أنا نفسي لست مقتنعًا به،  كل ما نحتاجه اليوم هو الواقعية مهما كانت مؤلمة لكي نتجنب الوقوع بالخطأ مرة أخرى. هذا الوعي والتحوّل للواقعية هو الأمل الحقيقي والوحيد للشعب السوري.

 

على صعيد آخر، أودّ التنويه بعملين لمصطفى يعقوب عام 2016، -أشار إلى أنّهما من الأعمال الأقرب إلى قلبه-، أحدهما يمثل صور بنايات مهدمة يعلوها وهج شموع، والآخر يمثل قلبًا بشريًا نازفًا استبدل أواخر شرايينه بشموع أيضًا، خطر ببالي عند رؤيتهما النقاش الذي خضته منذ بضعة أيام حول السحر الكامن في ذوبان الشموع واشتعالها، وعن غرابة فكرة أنَّها تذوب وتفنى ثم تتجمد مرّة أخرى لتخلق ذاتها من فنائها، هنا لا أستطيع ألّا أفكّر في أعمال مصطفى إلّا بأنَّها كالشموع تمامًا: تخلق البلاد الجديدة وتتوهج رغم كل الخراب الذي سيذوب يومًا حتى ولو تحت النيران!